بحيرة الألم الصمغية
يبدو مهفوم السفر مختلفاً من شخص لآخر. لكن في كل سفرة أذكّر نفسي بقول الشاعر اليوناني "كفافي-Constantine Cavafy": "ليس هناك يا صديقي أرض جديدة ولا بحر جديد. ستتبعك المدينة
قدرُكَ أنكَ ولِدت هاهنا".أحاول جاهداً أن أسافر متخففاً من تبعات عالمي وألا أحمل مدينة همومي ومشاغلي وعلاقاتي معي. حتى أني في السنوات الأخيرة صرت أبتعد عن تلفوني النقال ما أمكنني، وأطلّ على الأخبار بين فترة وأخرى، وأبقى على وصل مع شبكات التواصل الاجتماعية في أقل القليل. حتى الأماكن التي أسافر إليها أحاول بالتنسيق مع عائلتي اختيار مناطق جديدة لنسافر إليها، لنكتشف عوالم جديدة في المكان والبشر.ما يصاحبني في كل لحظة هو القراءة والكتابة، وربما هذه هي أصعب الضرائب وأحلاها التي يدفعها الكاتب دون غيره. فمتى ما اتخذ من الكتابة عنواناً لحضوره الإنساني لا يستطيع فكاكاً من خفق قلبه. القراءة والكتابة بالنسبة للكاتب ظل يصاحب خطوه، وإن ابتعد عن الكتابة، فإن كاميرا عينيه ووعيه تلتقط أي مشهد لتختزنه في الذاكرة، عساه أن يكون زاداً لكتابة قادمة، وهذا في جانب منه يأتي على حساب لحظة سفره. تعودت حين أسافر أن ألتقط خيط حوار مع البعض ممن تهيئ لي الفرصة إمكانية الحديث معهم، لأتعرف إلى رأي مختلف، وأسمع تجربة حياة غير تلك التي أحياها. وكم تبدو المفارقات كبيرة أحياناً. في الأسبوع الماضي، وبينما أنا في سيارة أجرة في مدينة ميونيخ الألمانية، جرى حوار بيني وبين السائق لأكتشف أنه ممثل مسرحي وإذاعي "بيتر بولز- Peter Bulz" ولقد سعدتُ بمصاحبته طوال فترة إقامتي في ميونيخ، وكان دليلي لأهم القصور التاريخية والمسارح والجاليريات الفنية. واستوقفني في بيتر تواضعه الجم ولطفه وصراحته، فوالده كان مصوراً ألف في أواخر حياته كتاباً ضمنه سيرته الذاتية، وكان لافتاً بالنسبة لي موقف بيتر حين قال: "بعد موت أبي ذهبت لشقته، كنتُ محاطاً برائحته وعالمه وعشرات النسخ من كتاب سيرته. الشقة كانت مليئة بآلاف الصور التي التقطاها على مدى عمره الذي قارب التسعين. بدأت بتفحص ألبومات الصور، ثم ما لبث هذا التفحص أن تحول لمرور، لكني بعد ساعات أدركت أنني سأحتاج إلى فترة طويلة أتفحص إرث أبي وأنا لست بحاجة لذلك". ونظر إليَّ وأكمل: "أبي عاش حياته ودوّنها في كتاب، وهي تختلف عن حياتي، لذا اكتفيت بأن أحمل نسختين من كتاب سيرته، وأترك الشقة بما فيها، لأذهب ماشياً في طريق حياتي".بدا لي مشهد بيتر في شقة أبيه مشهداً دالاً، فبعض من الإنسان العربي ما زال مسكوناً بهاجس الإخلاص للماضي مما يجعل هذا البعض يعيش في ثوب أبيه، لكن الإنسان الغربي يحترم الماضي ويقدّر العلاقة الإنسانية، لكنه في الآن نفسه يدرك أنها انتهت، وأن لكل إنسان حياته الخاصة، وأن لكل زمن رتماً يسير فيه.سحرتني الأفكار المتجددة التي يستخدمها الفنان التشكيلي الأوروبي. ففي ميونيخ ومدن ألمانية أخرى، وكذلك في مدن بريطانية، أدهشتني جدة الأفكار التي يتحرك من خلالها الفنان التشكيلي، فاللوحة أو التمثال صار يعبّر عن اللحظة الإنسانية الراهنة، وهو يرتكز على أساس الدراسة الفنية من جهة، وكسر رتابتها والخروج عليها من جهة ثانية. كما أن اللوحة الفنية باتت تشكل بصمة للفنان ينتقل بها إلى العالمية، خاصة وتواجد جاليرات حية تنتقل بالفنان من مدينة إلى أخرى، وتنشره في فضاء العالم عبر مواقعها على شبكة الإنترنت.السفر متعة، لكنها كأي متعة ترتهن لشرطها. وأظن أن أحد أهم شروط السفر، هو أن نتخلى، ولو بعض الوقت، عن شيء من همومنا الشخصية، وإلا صرنا نسافر بأجسادنا بينما تفكيرنا يخوض في بحيرة الألم الصمغية.