القرارات غير الشعبية... قصر نظر في إدارة ملف الاقتصاد

الدواء الناجع الترشيد لا جباية الأموال... والأسعار يجب ربطها بالتضخم

نشر في 18-08-2016
آخر تحديث 18-08-2016 | 00:05
No Image Caption
ثمة قناعة لدى متخذي القرار في الكويت تحتاج إلى قدر عال من المراجعة، وهي أن اتخاذ قرارات غير شعبية سينعكس إيجابا بالضرورة على الوضع الاقتصادي، بما في ذلك مواجهة الآثار المترتبة على انخفاض أسعار النفط العالمية وانعكاساتها على الميزانية العامة للدولة.

هذه القناعة عبر عنها أكثر من مسؤول حكومي في الفترة الماضية، ركز على أن آليات الإصلاح الاقتصادي والاستدامة تتطلبان اتخاذ قرارات "صعبة وغير شعبية"، بوصف هذه القرارات ضرورية جدا ولابد من اتخاذها بأسرع وقت ممكن.

وفي الحقيقة فإن التركيز على القرارات غير الشعبية لتجاوز آثار العجز المالي يعبر عن قصر نظر في التعامل مع المشكلات التي يعانيها الاقتصاد الكويتي منذ زمن، والتي تظهر نتائجها واضحة كلما تراجعت أسعار النفط العالمية، إذ إن مشكلات على مستوى اختلالات ميزان الإيرادات غير النفطية مقابل نظيرتها النفطية أو سوق العمل أو التركيبة السكانية، فضلا عن دور وفاعلية حجم القطاع الخاص من إجمالي حجم الاقتصاد الكويتي، لا يمكن معالجتها عبر اتخاذ قرارات غير شعبية محدودة الأثر على الميزانية والناتج المحلي، كقرار رفع أسعار البنزين.

أصل الخلل

فالقرارات بغض النظر عن أنها شعبية أو غير شعبية يجب أن تلامس أصل الخلل الذي تعانيه الكويت منذ سنوات، وهو عدم وجود أي اقتصاد مساند يوفر للدولة عوائد وفرص عمل وتكنولوجيا وخبرات واستثمارات تقيها تقلبات الأسواق النفطية، وما ينعكس عليها من آثار سلبية كلما تراجع سعر النفط، مقابل تنامي الإنفاق العام بأعذار مبررة وأخرى غير مبررة.

ولعل النظر إلى تقرير "أرنست آند يونغ"، الصادر نهاية العام الماضي، والمقدم إلى "لجنة مراجعة الدعوم"، كفيل بإعطاء لمحة عن القرارات غير الشعبية المراد إصدارها في المستقبل القريب، كتقليص الدعم عن المواد التموينية، أو خفض الابتعاث الدراسي، أو خفض القرض الإسكاني وبدل الايجار، أو إلغاء إعانات الزواج، أو حتى إعادة تسعير الكهرباء والماء، إلى جانب خفض الدعم المقدم للقطاعات الزراعية أو الغذائية، فضلا عن تقنين فاتورة الرعاية الاجتماعية... بل إن التقرير ركز على ضرورة إعادة النظر في فاتورة العلاج بالخارج، وهي الفاتورة التي صنعتها الحكومة لشراء ولاءات سياسية، وتنامت قيمتها المالية لنحو 4 أضعاف قيمتها قبل 5 سنوات مضت.

ترشيد وتضخم

ربما يتساءل البعض: أليس في الدعومات من كهرباء وبنزين وغيرهما مما ذكر أعلاه هدر يستوجب إعادة النظر في تسعير الخدمات والسلع، وتقنين الفواتير وإيصال الدعم لمستحقيه؟

الجواب هنا ينقسم إلى قسمين، الأول: كل ما يتعلق بمعالجة ملف الدعومات يجب أن يرتبط بسياسات الترشيد، وليس عمليات سد العجز المالي، فالدعوم لوحدها لا تسد العجز، ولا تؤثر في الميزانية بقدر ما يؤثر فيها ارتفاع أو انخفاض دولار واحد لسعر النفط، مصدر الدخل الوحيد عالي المخاطر، الأمر الذي يجب أن تتحول فيه العقلية من جباية الأموال بسبب الاستهلاك إلى عقلية ترشيد تستهدف استخداما أفضل للسلع والخدمات، وتتضمن حوافز لمن يرشد استهلاكه حتى وإن حصل مثلا على نقاط في الأشهر محدودة الاستهلاك ترحل إلى الأشهر الأكثر استهلاكا.

الثاني: يرتبط بضرورة أن يسبق أي قرار يتعلق برفع أسعار خدمات أو سلع أو خفض للدعومات دراسة عن الآثار التضخمية المتوقعة لهذه الزيادة، فلا يمكن الحديث عن أن رفع أسعار السلع سيؤثر على المستهلك بالقيمة المباشرة المدفوعة للسلعة نفسها، بل يجب أن تكون هناك دراسة للآثار غير المباشرة للتضخم من ارتفاع السلع الأساسية، وهو أمر يرتبط بالبنزين ودعومات الأغذية والمواد الإنشائية وبدل الإيجار وغيرها كثير، مع الأخذ بعين الاعتبار الضرر على المستهلك إذا تزامن ارتفاع أسعار السلع والخدمات في وقت واحد.

وبمناسبة الحديث عن آثار التضخم يجب لفت الانتباه إلى خطورة ما يطرحه نواب مجلس الأمة بخصوص "بدائل" رفع أسعار السلع، كالتعويض النقدي للمواطنين، الذي يعني نموا أكبر للسيولة في السوق، وبالتالي فرص أكبر للتضخم أو حتى الكوبونات التي ستحدث ارتباكا بين المستهلكين، وستشوبها درجة عالية من ضعف العدالة، مقارنة ببعد أو قرب المناطق السكنية ومراكز العمل.

ملاحظات ونموذج

اتخاذ قرارات غير شعبية من إدارة حكومية تحفل تقارير ديوان المحاسبة سنويا بملاحظات متعددة وكثيرة على وزاراتها وأجهزتها سيجعل الرأي العام يتساءل عن جدوى مراجعة الدعومات مقابل تنامي الهدر المالي، وهو تساؤل يمثل ثغرة في الخطاب الاقتصادي الحكومي، لذلك فإن أرادت الحكومة أن تتعامل مع القرارات غير الشعبية فعليها أن تتحوط كثيرا - وهي أصلا لم تتحوط لهذا الأمر من قبل - عبر معالجة ملاحظات ديوان المحاسبة بقدر عال من الجدية، فالفشل في التعامل مع الملاحظات لابد أن يرفع من درجة الاعتراض على المساس بمكتسبات الدعم... فالأولى أن تقدم الإدارة الساعية إلى الإصلاح الاقتصادي - ولو بنظرتها المحدودة - نموذجا إيجابيا يساعدها على تسويق خططها.

مطلوب التعامل مع أزمات الاقتصاد بمسؤولية أكبر وفهم أكثر لطبيعة الأزمة، والتي تتجاوز المفهوم الحسابي للعجز أو حتى الفائض، فالهدف على المدى المتوسط على الأقل يجب أن يكون إنشاء اقتصاد مساند وفق بيئة استثمارية، يستقطب الشركات الأجنبية ويحفز استثمار المحلية، ويحقق عوائد ضريبية، ويوفر فرص عمل، فضلا عن فتح السوق لمنافسة حقيقية تكبح آثار التضخم، وهي أمور أعمق بكثير من مجرد اتخاذ قرارات غير شعبية بطريقة لا تخلو من التعالي والفوقية على الناس.

ما جدوى مراجعة الدعومات مقابل تنامي الهدر المالي الحكومي؟

يجب التعامل مع أزمات الاقتصاد بمسؤولية أكبر وفهم أكثر لطبيعة الأزمة التي تتجاوز المفهوم الحسابي للعجز أو حتى الفائض
back to top