«يلفّ الصمت أكبر مدن الخلافة»، يخبر رجل من الموصل أمضى بعض الوقت على أطراف المدينة متنقلاً أحياناً سيراً على قدميه لينقل التفاصيل من داخل مناطق «داعش»، كما اعتاد سابقاً. يذكر: «بينما كان القتال في الفلوجة محتدماً، كانت مكبرات الصوت في المساجد تصدح خمس مرات على الأقل يومياً بأصوات تدعو الناس إلى الانضمام إلى القتال. ادعى هؤلاء الرجال أن «داعش» سينتصر، وزعموا أنهم يملكون آلاف المقاتلين وأطناناً من الذخيرة والأسلحة، وأكدوا أن الفلوجة لن تسقط مطلقاً. ولكن منذ سقوطها، سكتت هذه الأصوات كافة».نحو نهاية شهر يونيو، حرّر الجيش العراقي، بدعم من مقاتلي القبائل السنية والميليشيات الشيعية، هذه المدينة القريبة من بغداد من قبضة الإسلاميين. شكّلت هذه أكبر هزيمة تلحق بالتنظيم حتى ذلك الحين، علماً أن الأخير كان يواجه الخسارة تلو الأخرى على الجبهات كافة منذ أشهر.
في الأسابيع الأخيرة، استخدم معتدون قنابل، بنادق رشاشة، وفأساً لتنفيذ اعتداءات ضد المدنيين في اسطنبول، دكا، بغداد، بيروت، نيس، وآنسباخ، فضلاً عن قطار محلي قرب فورتسبورغ. ولا شك في أن هذه الهجمات جعلت «داعش» يبدو أكثر قوة وخطورة من أي وقت مضى في نظر الناس في الغرب. لكن موجة الأعمال الإرهابية هذه تزامنت مع تطورات مهمة في مناطق التنظيم الأساسية.
تفاقم الضغط
تُظهر الوقائع أن الضغط الذي تتعرض له «الخلافة» يزداد بإطراد، سواء في سورية أو العراق. بات الهجوم على الموصل وشيكاً مع اقتراب قوات يقودها الأكراد من الرقة، ثاني أكبر معاقل «داعش». وفي ليبيا، تسير القوات الحكومية بدعم جوي من الولايات المتحدة نحو مدينة سرت التي يسيطر عليها التنظيم. ولا شك في أن هذه التطورات كافة ساهمت في تنامي عدد الاعتداءات التي ينفذها «داعش» راهناً.تشير صور كثيرة تقدمها مصادر تخاطر بحياتها لتنقل معلومات عمّا يدور في هذه المناطق إلى بداية انهيار هذه القوة، التي تتأرجح بين الانسحاب والتوهم. وتُجمع المصادر من مناطق مختلفة يسيطر عليها «داعش» في سورية والعراق على أن هذا التنظيم الإرهابي ما زال يتحكّم في الناس المقيمين هناك. ولكن لأن القوة والخوف يشكلان أداة السيطرة الوحيدة المتوافرة لداعش، تمثّل كل هزيمة عسكرية يتعرض لها ضربة أقوى.يذكر رجل يعيش في منطقة قريبة من مدينة الحويجة الواقعة جنوب كركوك في العراق: «يشعر المقاتلون بالاستياء. وهذه أول مرة يبدون فيها خائفين، حتى إن بعضهم أرسل عائلاته إلى الموصل. بالإضافة إلى ذلك، يعرب عدد كبير من الرجال المحليين، الذين انضموا إلى «داعش» في مراحل سابقة، عن ندمهم أو يزعمون أنهم خُدعوا أو أُرغموا على ذلك. وإن وعدتهم الحكومة في بغداد بالعفو، فلا شك في أنهم سيتوجهون إلى مواقع الجيش ليتفادوا السقوط في قبضة الميليشيات الشيعية القاتلة».اللافت أن مَن استخدموا سلطتهم كأعضاء في «داعش» خلال تقدّم التنظيم عام 2014 لسرقة البرادات وأجهزة الميكروويف من منازل جيرانهم الذين هربوا، باتوا هم أنفسهم لاجئين. يتابع الرجل عينه مخبراً: «في الحويجة، باع داعشي مجموعة كاملة من الأثاث في السوق بعشرين دولاراً، مع أن ثمنها يفوق السبعمئة دولار». ويؤكد أن آخرين يحاولون مغادرة «الخلافة» بالكامل، متوجهين شمالاً إلى المناطق الكردية. ولكن لا أحد ينتقل جنوباً، لأن القوات الشيعية تقتل كل مَن حارب إلى جانب «داعش»، وفق هذا الرجل.تنامي الوهم
بينما تعمل مجموعة الحلفاء المتنوعة، التي تضمّ الميليشيات الكردية والشيعية، الجيش العراقي، وسلاح الجو الأميركي، على استعادة المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» الواحدة تلو الأخرى، تزداد «الحسبة»، الشرطة الإسلامية التابعة لداعش والمنتشرة في كل مكان، توهماً في مساعيها إلى الحفاظ على سيطرتها على الناس. فقد حظرت منذ زمن التدخين والموسيقى. كذلك تُمنع المرأة من مغادرة منزلها ما لم ترتدِ النقاب وما لم تكن برفقة زوجها أو أحد أقاربها الرجال. فضلاً عن ذلك، منع الإسلاميون أخيراً الناس من ارتداء ملابس حمراء.يخبر أحد سكان الموصل: «الأحمر لون احتفال، على حد تعبيرهم، لذلك منعوا ارتداءه. وفي حصص الرياضيات في مدرستي، حظروا استعمال علامة الجمع لأنها تشبه الصليب المسيحي، حسبما يقولون. بات على التلامذة اليوم كتابة: 1 زائد 1 يساوي اثنين إن شاء الله. أما مَن يستخدمون علامة الجمع، فيواجهون العقاب. علاوة على ذلك، من الممنوع ارتداء قمصان تحمل شكل صليب مهما كان، حتى شعار فريق برشلونة لكرة القدم».تبدو هذه التدابير محاولات غريبة للحفاظ على السيطرة داخل مناطق «داعش»، خصوصاً مع تراجع هذه السيطرة بسبب الضغوط العسكرية الخارجية. لكن الوقائع تُظهر أن قوة التنظيم تضعف، وأن التنظيمات المتشددة لن تجدي نفعاً، فلن تحقق أي هدف غير إعطاء انطباع خاطئ عن أن «داعش» ما زال قوياً.شكّلت المراقبة الشاملة والمتواصلة مصدراً أساسياً لقوة «داعش»، إذ مكّنته من السيطرة على مناطق شاسعة والاحتفاظ بها. في البداية، يراقب المقاتلون بدقة وبشكّل مكثّف كل منطقة يريد «داعش» احتلالها، ثم يخدعون الناس المقيمين فيها، مخفين هويتهم ونواياهم الحقيقية. وأخيراً، يسحقون أي مقاومة، معربين عن وحشية واضحة لا ترحم.بالإضافة إلى ذلك، استخدم «داعش» الدين كوسيلة دعائية تساعده في تحقيق غاياته، إذ استغل قادته الإسلام لجذب المجاهدين من الشيشان أو تونس، فضلاً عن تبرير طغيانهم في المناطق الخاضعة لسيطرتهم. لكنّ هذا النظام المستوحى مما اعتاد صدام حسين اعتماده لا ينجح إلا إذا تمكّن مَن في السلطة من مواصلة تطبيقه.لكن سيطرة الإسلاميين بدأت تتراجع في الآونة الأخيرة، وهذا ما يظهر بوضوح تام: عندما يخسر «داعش» سيطرته على منطقة معينة، لا يعود سكانها مضطرين إلى البقاء أولياء له. ولو كانوا مقتنعين حقاً بمبادئه أو كانوا يؤمنون فعلاً بـ»الخلافة»، لاستمرّ وجود التنظيم في هذه المناطق كقوة خفية.في أفغانستان مثلاً، يُعزى نهوض حركة «طالبان» مجدداً إلى أن عقيدتها دامت حتى بعد انتهاء حكمها. نتيجة لذلك، عندما صارت الظروف مؤاتية لظهورها مجدداً (في هذه الحالة بسبب حكومة فاسدة دافعت عنها قوات أجنبية)، عادت هذه الحركة بقوة. ولهذا السبب عينه، حرص تنظيم «القاعدة» في اليمن على عدم تأليب السكان المحليين ضده. صحيح أن هذه الإستراتيجية حالت دون احتلاله المناطق بسرعة، إلا أنها حالت أيضاً دون تعرّض سكان المناطق المحتلة لخيبة أمل.في المقابل، لم يفُز «داعش» بموافقة السكان المحليين، فلو حاول استمالة العقول والقلوب بدل اجتياح القرى، لما استطاع الانتشار بالسرعة الكبيرة التي شهدناها خلال المراحل الأولى حتى خريف عام 2014. لكن إستراتيجيته الوحشية تحوّلت اليوم إلى عقبة في طريقه.ما من مدينة أو قرية في سورية أو العراق تعرب غالبية أهلها عن تأييد حقيقي لداعش، وفق بعض مَن هربوا، فضلاً عن المخبرين على الأرض. على سبيل المثال، تُجمَع عينات الدم المتبرع بها للمقاتلين المصابين بالقوة.يحاول معظم السكان المحليين ببساطة الابتعاد عن درب «داعش» والحفاظ على حياتهم. يعيش هؤلاء في خوف ويعتقدون بأن التنظيم سيزول على الأمد الطويل. ومع أن القادة المحليين وعدداً كبيراً من المجاهدين الأجانب ما زالوا أوفياء لزعيم «داعش» أبي بكر البغدادي، حسبما يُفترض، إلا أن قليلين يواصلون تأييد التنظيم بمحض إرادتهم، فلم تشكّل استمالة السكان المحليين مطلقاً جزءاً من خطة «داعش».انطلاقاً من هذه الخلفية، عمدت النساء خصوصاً في عدد من المناطق المحرَّرة في شمال سورية إلى الاحتفال بحريتهن المكتسبة حديثاً بطرائق أكثر غرابة مما نتوقعه في بيئتهن المحافظة. فقد تناقل الناس حول العالم صورة سعاد حميدي (19 سنة) وهي تمزق نقابها. كذلك صاحت امرأة أخرى في شريط مصوَّر: «انظروا إلى ما نرتديه. شكراً لكم على تحريرنا. بفضلكم أستطيع ارتداء الأحمر. سألبسه باستمرار».على نحو مماثل، سعدَ مصففو الشعر، الذين توقفت أعمالهم طوال السنة إلى السنتين الماضيتين، بفيض الزبائن الذين تقاطروا إلى صالوناتهم. أراد الرجال حلق لحاهم والحصول على تصفيفة عصرية مع شعر قصير مغطى بالـ»جيل». رغبوا في توديع القصة الإلزامية الباهتة التي فرضها عليهم «داعش». كذلك عادوا إلى لعب الورق والطاولة في الشوارع والتدخين علانية.استمرار الخطر
لن يختفي «داعش». ما دامت الطائرات الروسية والسورية تواصل ضرباتها المميتة، وما دام السنّة يعيشون في خوف قاتل من الشيعة، وقد يعاود «داعش» الظهور، حتى بعد القضاء تماماً على «خلافته».سبق أن تعرّض التنظيم الإرهابي لهزيمة كاملة تقريباً في العراق، فاختفى عن الأنظار عام 2008 وكاد يُنسى بالكامل إلى أن عاود الظهور فجأة عام 2012، متخذاً شكلاً أكثر خطورة من ذي قبل. وتستغل ماكينته الدعائية هذا الواقع كدليل على أنه لا يُقهر. سأل المتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني في خطاب ناري ألقاه أخيراً: «هل هُزمنا حين خسرنا مدناً في العراق ولجأنا إلى الصحراء من دون أي مدينة أو أرض؟ وهل تحققون الانتصار اليوم ونُهزم نحن إن استوليتم على الموصل، سرت، والرقة؟ كلا بالتأكيد».تمكّن «داعش» من استعادة قوته قبل أربع سنوات لأن ضباط استخبارات صدام حسين السابقين تعاونوا مع الإسلاميين. هكذا رأينا خبراء يتقنون فنون الحرب برزوا بسرعة، طوّروا إستراتيجية طويلة الأمد، وصاغوا تكتيكاتهم. كذلك استغل «داعش» الظروف في تلك الفترة، خصوصاً الحرب في سورية وسياسات التمييز الطائفي في العراق التي استبعدت السنّة عن مراكز السلطة والوظائف العامة.علاوة على ذلك، تحوّلت كارثة الحرب التي تقودها واشنطن ضد «داعش» إلى واقع اليوم مع تركيزها القصير النظر على الضربات العسكرية وتجاهلها الظروف الكامنة التي تتيح للتنظيم النهوض مجدداً في مرحلة لاحقة.قبل أيام من تعهّد دبلوماسيي عشرات البلدان بتكثيف الجهود لمحاربة «داعش» خلال لقاء عُقد في مطلع شهر يوليو، سافر وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى موسكو. كانت حقيبته مليئة بتنازلات أعربت الولايات المتحدة عن استعدادها لتقديمها لروسيا، وتسمح لنظام الحاكم السوري المستبد بشار الأسد بالبقاء في السلطة في الوقت الراهن على الأقل.تكمن المشكلة في أن الثورة ضد الأسد لن تخبو ما دام في السلطة. كذلك، يعيق بقاء الأسد في الحكم أي اتفاق حقيقي مع فصائل المعارضة المختلفة في البلد، مع أن هذا النوع من الوحدة ضروري للقضاء على «داعش» نهائياً.ولكن بدلاً من ذلك، تسمح الولايات المتحدة لمجموعات تحارب أيضاً الإسلاميين لأغراضها الشخصية بأن تستغلها مراراً. على سبيل المثال، قتلت القنابل الأميركية في التاسع عشر من يوليو أكثر من 50 مدنياً في مدينة منبج شمال سورية، التي تخضع لسيطرة «داعش». حصل الأميركيون على إحداثيات هذه العملية من ميليشيا قوات سورية الديمقراطية الكردية، التي لا تكتفي بمحاربة «داعش»، بل تحاول أيضاً طرد العرب من المناطق الواقعة بين معاقلها الكردية.لم ينجح مَن يرسمون إستراتيجيات واشنطن المضادة للإرهاب في واشنطن حتى اليوم في فهم التفاعلات الداخلية في «داعش». لذلك، ما زال كثيرون منهم يعتبرون هذا التنظيم قوياً، مع أنه بلغ أضعف مراحله. أخبر مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق مايكل هايدن صحيفة «واشنطن بوست» أخيراً: «اتبع «القاعدة» تنظيماً هرمياً مضبوطاً إلى حد ما، إلا أن «داعش» ليس كذلك. تمتاز هذه المجموعة بطاقة حركة شعبوية وبتقلباتها». لكن هذا ما يفتقر إليه «داعش» بالتحديد.