سألتُ أستاذ الفلسفة لما كنت في الثانوية: هل هذه المادة هي مجرد أرشيف من أسئلة وأجوبة لأناس من متناقض الحضارات والأديان والأزمان؟ قال: نعم، وعقّبت: هل هي مجرد تجميع لأفكار عشوائية؟ قال: نعم، فتابعت: هل هي لا تعلمنا الحسم والجزم بأي قضية بخلاف العلوم المادية والإسلامية؟ فأنقص درجتي، بيد أنني كنت أمارس ما كان يشجعني عليه: ألا وهو التشكيك، والآن أنا حر لأضع الفسلفة تحت عدسة العقل لكي أحللها موضوعياً. اسمها يوناني الأصل يلفظ "فيلو-صوفيا"، "صوفيا" تعني الحكمة و"فيلو" تعني الحب، فاليونانيون يصفون حكيمهم بعاشق الحكمة، ومن يتجرأ على أن يشكك في آلهاتهم الذكور والإناث يستحق هذا الشعار، ولكن هل نعتاز مشكيكين في بيئتنا الإسلامية الأساس والأصيلة الأدب والأخلاق؟ لماذا نفتعل التشكيك في عقل الطالب العربي بعد اثني عشر عاماً حاولنا أن نثبت عقله بالعلم والدين والأدب؟
لم أجد معلم فلسفة إلا يعلنها بنفسه في الصف "الفسلفة أنا لم ولن أفهمها"، ليكتفي بعدها بتكديس نظريات أكل عليها الدهر وشرب على السبورة، ويحشو عقل الطالب بأوهام وأساطير أمم قد خلت من قبله ليظفر بشهادة يفارق فيها أرشيف التخبطات العقائدية والعقلية الرتيبة. مثل ميتافيزيقيا أفلاطون التي يقول فيها: إنه إذا خبأ حبة في إناء فإن هذه الحبة تلاشت من الوجود إلى غيب عالم الميتافيزيقيا، لأنه افتقد يقين النظر إليها حسياً، فأي شيء يغيب عن الحواس يكون أوتوماتيكيا قابلاً للشك، وكما تقول قواعدهم "كل ما هو غائب حسيا قابل للشك، وكل ما تشك فيه فانٍ". فمن ضحايا هذه المناهج فردريك نيتشه النمساوي، أشهر فلاسفة عصر التنوير الذي توصل في النهاية من كثرة التشكيك إلى مقولته "قتلنا الله" والعياذ بالله، والذي انتهى به المطاف للهلاك بمصحة عقلية، بعدما كان يعتاش على مبالغ زهيدة ترسلها له أخته التي يصفها بعدوة رحلته الفكرية، لما كانت شهرته تعادل شهرة المتنبي في زمانه. وما الغرض من تعليم الفلسفات الشرقية مثل ما يؤمن به بعض فروع البوذا، بأن الكون على ظهر سلحفاة سرمدية تسير إلى اللانهاية بلا غاية؟ فهل المناهج الفلسفية هي كومة نظريات يدري الجميع أنها مغلوطة؟ إن كانت الحجة بأنها رياضة عقلية، فالعلوم الحقيقية لا تبخل بإعطائنا أعظم التمرينات! يدرك ذلك الجادون في تقديم التربية والتعليم بدون ضلالات الغزل ولا رتابة السلاحف. ألسنا بحاجة ماسة لالتهام مكتبات العلوم الدنيوية من الغرب والشرق؟ هل نحتاج إلى استيراد خرافات عن الغيبيات؟ ألم نعان الغثيان في هذا المجال؟ ولا نتصور إعفاءنا من الفلسفة بأننا هجرنا ملك السؤال، قال رب العالمين: "وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا". وينبغي التوضيح للكل بأن علم المنطق هو مستقل بذاته تماما عن الفلسفة، وليس هو المعني هنا، فهو علم يُقنن العقل ويهدي الباحث للرشاد، أما أنتِ أيتها الفلسفة فقد كنت مرحلة أوروبية خاصة للغرب، وجاوزوك بالبيولوجيا والسيكولوجيا والفيزياء وغيرها، لكنهم ما زالوا يحترمونك لأن أرواحهم تجوع لمعانٍ أسمى من الماديات.أختم بهذه الحادثة الطريفة، كان في مدرسة السفسطائيين صبي صغير يحضر دروس الكبار، وذات يوم قال معلمهم: "لا يوجد شيء إلا وهو قابل للشك، وفور ما شككت بشيء فُني!"، فرأى الصبي الطلاب منبهرين بمقولة كبيرهم، فقال أنا أشك بعقولكم وعقل كبيركم، فظنوا أنه أفنى عقولهم فتبعوه، فيا مخلصي الفلسفة اتبعوني، فالفلسفة ماتت من أول سؤال.
مقالات - اضافات
الفلسفة ماتت من أول سؤال!
20-08-2016