ترويض الشعبويين
انتصار الشعبوية يعني أن الطبقات السياسية خذلت مواطنيها حقا، وكان من الواجب أن يدفعنا انتصار حملة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إلى التحرر من وهم مفاده أننا نتمتع بالحماية على نحو أو آخر من المخاطر التي نراها من حولنا.
في كثير من الديمقراطيات الغربية تتزايد جرأة الشعبويين اليمينيين، الذين يستمدون القوة والنشاط من الانتصارات التي ينسبونها إلى أنفسهم على "النخب المؤسسية"، في الادعاء بأن العولمة تكمن في جذور المشاكل التي يواجهها العديد من المواطنين، وتحظى هذه الحجة بقدر كبير من الجاذبية بين أولئك الذين ركدت مستويات معيشتهم أو تراجعت في العقود الأخيرة، على الرغم من حرص الزعماء السياسيين على الترويج للتجارة وتدفقات رأس المال الحرة باعتبارها الوصفة الأكيدة لزيادة الرخاء، ويملي هذا علينا ضرورة التصدي لهذه الحجة بشكل مباشر.بطبيعة الحال لا تغذي المظالم الاقتصادية وحدها مشاعر العداء للعولمة؛ فقد نشأت الشعبوية حتى في الدول التي لديها معدلات بطالة منخفضة ودخولها في ارتفاع، ولكن مثل هذه المظالم توفر نواة الحقيقة التي يحتاج إليها الزعماء الشعبويون لاجتذاب الدعم، ومن ثَم يحاولون تأمينها بالحقائق المشوهة والمبالغات، وإذا لم نتصدّ للقضايا الاقتصادية فسيستمر الدعم الذي يحظى به أمثال هؤلاء الزعماء في النمو، وهو ما قد يقود مجتمعاتهم إلى الوراء، إلى زمن أقل تسامحا وأقل ازدهارا.الواقع أن أمثال دونالد ترامب ومارين لوبان لم يكتسبا موطئ قدم في الساحة السياسية في بلديهما- ناهيك عن الفرصة لقيادتها- بمجهودهما الشخصي، وإنما استغلا شعور العديد من المواطنين بأن الطبقات السياسية، التي روجت لفوائد العولمة في حين سمحت لفجوة التفاوت بالاتساع إلى مستويات غير مسبوقة، هجرتهم وتخلت عنهم.
من المؤكد أن العولمة كانت سببا في تضييق فجوة التفاوت بين الدول إلى حد كبير، ولكن داخل البلدان اتسعت فجوة التفاوت بشكل حاد، فلم تذهب أكبر المكاسب من العولمة إلى الطبقات المتوسطة والعليا في آسيا فحسب، بل أيضا إلى أعلى 1% دخلا في مختلف أنحاء العالم، ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ارتفع معامل جيني (المقياس الأكثر شيوعا للتفاوت) بنحو خمس نقاط في الفترة من 1990 إلى 2013. كما اتسعت فجوة التفاوت أيضا، ولو بوتيرة أبطأ، في الصين والهند وأغلب الدول الأوروبية.على الرغم من اتساع فجوة التفاوت، كانت فوائد العولمة ملموسة بشكل أكبر في البلدان النامية، والواقع أن الانفتاح الاقتصادي ساعد في انتشال الملايين من مواطني البلدان النامية من براثن الفقر، ولهذا السبب يزعم الخبير الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش أن العولمة دفعت عملية إعادة الترتيب الأكبر للدخول الفردية منذ الثورة الصناعية.ولكن في نظر العديد من مواطني الدول المتقدمة، هذه هي المشكلة على وجه التحديد، فهم لا يعارضون الحد من الفقر في بلدان بعيدة، ولكن إذا تصوروا على سبيل المثال أن الصينيين أصبحوا أكثر ثراء، في حين تظل أجورهم الحقيقية (المعدلة تبعا للتضخم) راكدة إلى حد كبير، فلن يقبلوا العولمة، وإذا تعاظمت أيضا ثروات أكثر أعضاء مجتمعاتهم ثراء، فإن الظروف تصبح مهيأة للتمرد المعادي للمؤسسة، وتمثل صورة "النخب غير الجديرة بالثقة" العلف المثالي الذي يتغذى عليه الشعبويون، الذين يزعمون أن العولمة أعطت الأثرياء والأقوياء قدرا من المال والسلطة أعظم من أي وقت مضى. لكن العالم الذي يأمل الشعبويون وناخبوهم إعادة خلقه- عالم الدول المتساوية المكتفية ذاتيا والمعزولة عن التطورات التي تجري من حولها- لا وجود له ولم يكن له وجود قط، وأي محاولة لإغلاق الاقتصادات- ناهيك عن الحدود- ستُمنى بالفشل الذريع.تتلخص الطريقة الوحيدة لوقف مد الشعبوية المدمرة المتصاعد ومنع الانجراف نحو تدابير الحماية المدمرة في إعادة التواصل مع الدوائر المحبطة، وإيجاد السبل للاستجابة لمظالم الناس الاقتصادية الحقيقية، وتتمثل الوظيفة الرئيسة لأي حكومة وطنية في حماية التوازن الاجتماعي الذي يشكل العمود الفقري للأنظمة الديمقراطية، ولهذا السبب لا ينبغي للزعماء أن يرفضوا العولمة، بل يتعين عليهم أن يعملوا على توجيهها، بحيث تعزز مصالح مواطنيهم ورفاهتهم. وتشكل المبادرات الجريئة لمعالجة التفاوت بين الناس أهمية بالغة، فبالإضافة إلى التدابير المؤقتة، التي تهدف إلى تحسين الظروف الاقتصادية للناس على الفور، يتعين على الزعماء أن يعملوا على تطوير أنظمة تضمن أن المواطنين مجهزين لتحقيق الازدهار في عالم تحكمه العولمة في الأمد البعيد، وسيشكل الإبداع، ومهارات حل المشاكل، ورفع الكفاءة الشخصية، ضرورات أساسية.علاوة على ذلك يتعين على السلطات الوطنية أن تتعاون في ما بينها لتحسين الحوكمة العالمية، ففي السنوات الأخيرة أصبحت أوجه القصور التي تعيب هياكل الحوكمة القائمة، وخاصة في ما يتصل بقضايا مثل الضرائب وتشغيل العمالة، واضحة بشكل صارخ، وتتضمن أجندة قمة مجموعة العشرين التي تستضيفها الصين الشهر المقبل مناقشة تدابير ملموسة للحد من التفاوت، لكن الكلام لا يكفي؛ بل يتعين على الزعماء أن يعملوا على ضمان ترجمة المناقشة إلى عمل حقيقي.وكلما أسرعنا في تحقيق هذه الغاية كان ذلك أفضل، فلن يُفضي التحول الجاري الآن في سوق العمل نتيجة للتقدم في مجال الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلا إلى جعل التعامل مع قضية التفاوت أمرا أشد صعوبة في المستقبل، وكما حذرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أن أتمتة المهام اليدوية والمتكررة بشكل أساسي ستؤثر في أولئك الذين لا يحملون شهادات جامعية، المجموعة نفسها التي تشعر بالإحباط بالفعل إزاء ظروفها الاقتصادية.على مدار العام المقبل ستشهد أوروبا والولايات المتحدة انتخابات وطنية مهمة، وإذا انتصر الشعبويون فستتعرض إنجازات اجتماعية مهمة عديدة للخطر، ومن الأهمية بمكان لهذا السبب أن يثبت الزعماء الوطنيون، على الفور، أنهم قادرون على التصدي للتفاوت ومعالجة محنة أولئك الذين يشعرون أن العولمة خذلتهم. إن انتصار الشعبوية يعني أن الطبقات السياسية خذلت مواطنيها حقا، وكان من الواجب أن يدفعنا انتصار حملة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إلى التحرر من وهم مفاده أننا نتمتع بالحماية على نحو أو آخر من المخاطر التي نراها من حولنا، فما لا يمكن تصوره قد يحدث وقد يفوز الشعبويون، والآن حان الوقت لكي يثبت الزعماء الوطنيون أنهم منتبهون إلى الخطر.* خافيير سولانا | Javier Solana ، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي، ووزير خارجية إسبانيا سابقا، ويشغل حاليا منصب رئيس مركز إيساد للاقتصاد العالمي والدراسات الجيوسياسية، وهو زميل متميز في مؤسسة بروكنجز.«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»