كلما ورد اسم "تشيخوف" على البال يفِد "شوبرت"، ويليه "برامز". لا أعرف إذا ما كان هذا الهاجس شخصياً صرفاً. فموسيقى "شوبرت" ابتسامة بين دموع هادئة وديعة، وموسيقى "برامز" تساقط أوراق خريف. وكلتا الصورتين تستحضر تشيخوف، أو يستحضرُهما هو، وخاصة في مسرحياته. وقصصُه القصيرة دعمٌ للصورتين. الأسى العميق روسيُ الطابع، لكن ليس من صنف الحزن الجارح الذي رعته موسيقى تشايكوفسكي، أو القلق الجارح الذي عرفته روايات دوستويفسكي. مرة سمع تولستوي ثلاثية البيانو لتشايكوفسكي، فردد مع نفسه "أروسايانا حزينة إلى هذا الحد؟" ولعله همس مع النفس لو رأى مسرح تشيخوف: "أروسيانا أسيانةٌ إلى هذا الحد؟".
في معرض الفن الروسي، الذي عرضتُ له في عمودي هذا قبل أسابيع، لم نقع على ابتسامة واحدة. وبورتريت تشيخوف من بينها ينضحُ، على الرغم من غياب ابتسامته، بمسحة الرضا، وصفاء السريرة. على أن مسرح تشيخوف وقصصه لا يبخلان عليك بإثارة الضحك حيناً، والابتسام معظم الأحيان. على "المسارح الوطنية" في "الساوث بنك" موسم صغير أُعد لأعمال تشيخوف الشاب، وهنّ ثلاثةٌ: "ﭙلاتونوﭪ"، "إيـﭬانوﭪ"، و"النورس". أحد النقاد لم يرَ صفة "الشاب" ملائمة، وخاصة أن تشيخوف توفي وهو في الرابعة والأربعين، فاقترح كلمة "المبكرة"، وله الحق في ذلك. فتشيخوف، في سنوات عمره المحدودة، انتزع القصة القصيرة والمسرحية من براثن التقليد، ومنحهما الحلة الحديثة التي نعرفها اليوم. ولعل "النورس" أكثر الثلاثة نضجا وشهرة، ولقد شاهدتها على خشبة "مسرح أوليفيه" البالغ الرحابة. فأنت ما إن تدخل، حتى تجد نفسك تحتضن المكان، الذي يشغل واجهة المسرح كلها: طرف من بحيرة داخل غابة جرّدَها الخريف من أوراقها، وعرّاها، وعرّانا معها، للبلل والمطر. الأحداث تبدأ في بيت الممثلة "أركادينا"، ذات الخُيلاء، والتي لا تُخفي أسى دفيناً بفعل الارتياب والخوف من المجهول. حفنة من المهمومين بمصائرهم كمثقفين وفنانين، يشاهدون عرضاً لعمل مسرحي لا أمل فيه، أنجزه الشاب "كونستانتين"، ابن الممثلة، وهو يتعلق بأحلام مجد لا مدى لتحقيقه. في حين تغرق أمه ببقايا مجد، وحب، بدأت تتهرأ وتتلاشى، مذعورة من ذلك، ومن دبيب السنوات، ولا تكاد تلحظ تشبث ابنها بآخر أمل من محبتها وتشجيعها. تؤدي العرض حبيبته البريئة "نينا"، التي تتعلق به، وبآمال المسرح، ثم فيما بعد بالكاتب المعروف "تريغورن"، حبيب "أركادينا". تهرب على موعد مع المجد، في أن يلتقيا في موسكو، لكنها تعود بعد سنتين إلى "كونستانتين" خائبة، حبلى بطفل لا تعرف أين تولّي به. كانت "نينا" جزءاً من الأحلام التي تمليها البحيرة على الحالمين، وترى نفسها نورساً من نوارسها. شبكة مبتورة الحبال من الآمال المُطفأة، خديعةُ كبار لصغار، تبلغ ذروتها في انتحار الشاب "كونستانتين"؛ "هاملت" الشكسبيري في حلته الروسية، بعد أن أنهكته الحاجة لحنان أمٍّ لا شأن لها به، والضغينة تجاه عاشقها، الغارق بطموحاته هو الآخر. على أن تشيخوف يقطّر الوصفة ببطء على امتداد عمله، في حين يلقي شكسبير بالزخم دفعة واحدة.على امتداد الفصلين الأخيرين حتى النهاية، وبعد أن أنجزت الأحداث المأساوية إرادتها في الفصلين السابقين، لم يتوقف انهيال المطر على مشهد البيت، وساكنيه، وأشجار الغاب العارية، وعلينا نحن المتفرجين جميعاً.كانت مرحلة تشيخوف المبكرة ككاتب دراما مزحومة بالخيبات. "ﭙلاتونوﭪ"، التي تتحدث عن معلم تُبلبل أفكاره المثالية الفودكا والخيانة، لم تُعرض في حياته. "إيـﭬانوﭪ"، عن مأساة رجل يحلم بأفكار التغيير الجذرية، لكنه يُربكها بكراهيته لذاته، عُرضت وسببت متاعب. ولم تنجُ "النورس" من ردود الأفعال السلبية، حين عُرضت عام 1887، حيث انتهى العرض بصفير الاستهجان. اختبأ تشيخوف خلف ستارة، ولم يستطع متابعة العرض المُخيب. ولم تحقق المسرحية نجاحها الباهر إلا على يد المخرج الروسي ستانسلافسكي عام 1898. ولعلها اليوم من أكثر مسرحيات تشيخوف حضوة في المسارح العالمية.
توابل - ثقافات
نورس تشيخوف
21-08-2016