الحكم العالمي والوعد الاقتصادي الكاذب
المشاكل التي تمتد جذورها إلى إخفاقات المداولات المحلية لن يتسنى حلها إلا من خلال تحسين عملية اتخاذ القرار الديمقراطي، ولن يقدم الحكم العالمي سوى مساهمة محدودة جداً في هذا السياق.
أصبح مصطلح "الحكم العالمي" شعار النخبة في عصرنا، فبفضل الطفرة الهائلة في التدفقات عبر الحدود من السلع والخدمات ورؤوس الأموال والمعلومات التي ينتجها الإبداع التكنولوجي وتحرير السوق، أصبحت بلدان العالم وفقا للحجج التي تسوقها النخبة مترابطة إلى الحد الذي يجعل أي دولة عاجزة عن حل مشاكلها الاقتصادية بمفردها، وعلى هذا فنحن في احتياج إلى قواعد عالمية، واتفاقيات عالمية، ومؤسسات عالمية.وقد بات هذا الادعاء مقبولا على نطاق واسع اليوم حتى إن الطعن فيه ربما يبدو أشبه بالزعم بأن الشمس تدور حول الأرض، بيد أن ما قد يكون صحيحا عندما نتحدث عن مشاكل عالمية مثل تغير المناخ أو الأوبئة الصحية لا يصدق عندما يتعلق الأمر بأغلب القضايا الاقتصادية، وخلافا لما نسمع غالبا، لا يشكل الاقتصاد العالمي مشاعا عالميا، والحكم العالمي قادر على جلب قدر محدود فقط من المنفعة، وإحداث بعض الأضرار من حين إلى آخر.وما يجعل من تغير المناخ على سبيل المثال مشكلة تتطلب التعاون العالمي هو أن النظام المناخي على كوكب الأرض واحد، وليس من المهم أين تنبعث الغازات المسببة للاحتباس الحراري الكوكبي؛ ولهذا فإن القيود الوطنية التي قد تُفرَض على الانبعاثات الكربونية لا تحقق أي فائدة تُذكَر على المستوى المحلي.
على النقيض من ذلك، تعود السياسات الاقتصادية الجيدة- بما في ذلك الانفتاح- بالفوائد على الاقتصاد المحلي أولا، وبالمثل، يُدفَع ثمن السياسات الاقتصادية السيئة محليا، وتتحدد الثروات الاقتصادية التي تمتلكها البلدان فرادى على ضوء ما يحدث في الداخل إلى حد كبير لا إلى ما يحدث في الخارج، فإذا كان الانفتاح الاقتصادي مرغوبا، فإن هذا يرجع إلى حقيقة مفادها أن مثل هذه السياسات تصب في المصلحة الذاتية للدولة التي تنتهجها، وليس لأنها تساعد الآخرين. وتعتمد سياسات الانفتاح وغيرها من السياسات الجيدة التي تساهم في الاستقرار الاقتصادي في مختلف أنحاء العالم على المصلحة الذاتية لا على الروح العالمية.وقد تأتي الميزة الاقتصادية المحلية أحيانا على حساب دول أخرى، وهذا هو ما يسمى سياسات إفقار الجار، ويتجلى المثال الأكثر وضوحا على هذا عندما يقرر الموَرِّد المهيمن لأحد الموارد الطبيعية، مثل النفط، تقييد المعروض منه في الأسواق العالمية بهدف دفع الأسعار العالمية إلى الارتفاع، وهنا يصبح مكسب الدولة المصدرة خسارة لبقية العالم.وتستند "التعريفات المثلى" إلى آلية مماثلة تتمكن أي دولة كبيرة بموجبها من التلاعب بمعدلات التبادل التجاري من خلال فرض القيود على وارداتها، وفي مثل هذه الحالات تصبح الحجة واضحة لمصلحة القواعد العالمية التي تقيد أو تحظر استخدام مثل هذه السياسات.ولكن الغالبية العظمى من القضايا في التجارة العالمية والتمويل التي تشغل صناع السياسات ليست من هذا القبيل، ولنتأمل هنا على سبيل المثال إعانات الدعم الزراعية في أوروبا والحظر المفروض على الكائنات المعدلة وراثيا، أو إساءة استخدام قواعد مكافحة الإغراق في الولايات المتحدة، أو الحماية غير الكافية لحقوق المستثمرين في الدول النامية. وهذه في الأساس سياسات "إفقار الذات"، وتتحمل تكاليفها الاقتصادية في المقام الأول الدول التي تفرضها، حتى رغم أنها ربما تتسبب في إحداث آثار سلبية يتحملها آخرون أيضا.على سبيل المثال، يتفق خبراء الاقتصاد عموما على أن إعانات الدعم الزراعية غير فعّالة وأن الفوائد التي تعود على مزارعي أوروبا بفضلها تأتي مصحوبة بتكاليف ضخمة يتحملها كل شخص آخر في أوروبا، في هيئة أسعار مرتفعة، أو ضرائب مرتفعة، أو كلا الأمرين، ولا تُفرَض مثل هذه السياسات لانتزاع مزايا من دول أخرى، بل لأن أهدافا محلية أخرى متنافسة- توزيعية، أو إدارية، أو ذات صلة بالصحة العامة- تهيمن على الدوافع على نطاق الاقتصاد بالكامل.ويصدق الأمر ذاته على القواعد التنظيمية المصرفية الهزيلة أو سياسات الاقتصاد الكلي الرديئة التي تؤدي إلى تفاقم دورة الأعمال وتعمل على توليد عدم الاستقرار المالي، وكما أظهرت الأزمة المالية العالمية عام 2008، فإن العواقب الممتدة إلى خارج حدود الدولة قد تكون جسيمة، ولكن إذا كانت الهيئات التنظيمية في الولايات المتحدة غفلت أو تقاعست عن أداء وظيفتها، فإن هذا لم يكن راجعا إلى أن اقتصاد أميركا استفاد في حين دفعت الاقتصادات الأخرى الثمن، بل كان الاقتصاد الأميركي بين أكثر الاقتصادات معاناة. ولعل خيبة الأمل الأكبر في ما يتصل بالسياسات في عصرنا كانت متمثلة بفشل الحكومات في الديمقراطيات المتقدمة في معالجة اتساع فجوات التفاوت، وهذا أيضا تمتد جذوره إلى سياسات محلية، حيث تستولي النخب المالية والتجارية على عملية صنع السياسات وتروج لروايات حول الحدود التي تقيد سياسات إعادة التوزيع.من المؤكد أن الملاذات الضريبية العالمية تُعَد مثالا لسياسات إفقار الجار، ولكن الدول القوية مثل الولايات المتحدة والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي كان بوسعها أن تفعل الكثير للحد من التهرب الضريبي- والسباق إلى القاع في خفض الضرائب على الشركات- إذا رغبت في ذلك.وعلى هذا فإن المشاكل في عصرنا لا علاقة لها بالافتقار إلى التعاون العالمي، فهي ذات طبيعة محلية ومن غير الممكن إصلاحها بفرض القواعد من خلال المؤسسات الدولية، التي قد ترتبك بسهولة بفِعل المصالح الخاصة نفسها التي تقوض السياسات المحلية. الواقع أن مصطلح الحكم العالمي قد يكون في كثير من الأحيان مجرد مسمى آخر لملاحقة أجندة عالمية يفرضها أصحاب المصالح، وهو لهذا السبب ينتهي في الأساس إلى تعزيز العولمة والتوفيق بين السياسات الاقتصادية المحلية. ينبغي لأي أجندة بديلة للحكم العالمي أن تركز على تحسين كيفية عمل الديمقراطيات في الداخل، من دون إصدار أحكام مسبقة على الكيفية التي لابد أن تكون عليها مخرجات السياسات، وهذا من شأنه أن يعزز الديمقراطية بدلا من نموذج الحكم العالمي المعزز للعولمة.يحضرني الآن تصور يتلخص في إنشاء معايير عالمية ومتطلبات إجرائية مصممة لتعزيز جودة عملية صنع السياسات المحلية، وتُعَد القواعد التنظيمية العالمية المتعلقة بالشفافية، والتمثيل الواسع، والمساءلة، واستخدام الأدلة العلمية أو الاقتصادية في الإجراءات والتصرفات المحلية- من دون تقييد النتيجة النهائية- أمثلة لهذه المتطلبات.الواقع أن المؤسسات العالمية تستخدم بالفعل قواعد تنظيمية من هذا النوع إلى حد ما. على سبيل المثال سنجد أن اتفاقية منظمة التجارة العالمية بشأن تطبيق تدابير الصحة والصحة النباتية تشترط صراحة استخدام الأدلة العلمية عندما يتعلق الأمر بالمخاوف الصحية المرتبطة بالسلع المستوردة، ومن الممكن استخدام القواعد الإجرائية من هذا النوع على نطاق أوسع كثيرا وبتأثير أكبر لتحسين عملية اتخاذ القرار على المستوى المحلي.ومن الممكن أيضا تحسين قواعد مكافحة الإغراق من خلال اشتراط مشاركة مصالح المستهلكين والمنتجين التي قد تتأثر سلبا بفِعل رسوم الاستيراد في الإجراءات المحلية، ومن الممكن تحسين قواعد الدعم من خلال اشتراط تقديم تحليل الفوائد والتكاليف الاقتصادية التي تتناول العواقب المحتملة التي قد تترتب على الكفاءة الثابتة والديناميكية.الواقع أن المشاكل التي تمتد جذورها إلى إخفاقات المداولات المحلية لن يتسنى حلها إلا من خلال تحسين عملية اتخاذ القرار الديمقراطي، ولن يقدم الحكم العالمي سوى مساهمة محدودة للغاية في هذا السياق، حتى هذه المساهمة المحدودة تستلزم تركيزه على تعزيز عملية اتخاذ القرار على المستوى المحلي لا تقييدها، وخلافا لذلك فإن هدف الحكم العالمي يجسد التوق إلى التوصل إلى حلول تكنوقراطية تتجاوز المداولات المحلية وتقوضها.* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «الاقتصاد يحكم: حقائق وأباطيل العلم الكئيب».«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة"»