في تقديمه كتاب «بين الأرض والسماء»، يوضح د. جهاد نعمان أن أفضل ثقافة هي تلك التي يكتسبها المرء من الرحلات. فالرحلات عامل تجدد تلقائيّ أو مفاجئ، وإنما انطلاقاً من مخزون فكريّ وفضوليّة ذهنيّة لدى الكاتب. ينطلق الكاتب من عالمه الخاص، من أحلامه وتصوّراته وعلاقاته. الحكيم يسافر لاكتشاف ذاته، ينطلق من الذات ليحلّق في الآفاق الرحبة. ولطالما تجلّت العودة من الرحلات أروع ما فيها لأن المسافر يعود ولا يعود. يشعر بأنه عاد مختلفاً وقد زُوّد عناصر جديدة تثري شخصيّته، فيُكسب ثقافته جانباً من التغيّر والتجدد...في القسم الأول من الكتاب، يشير المؤلف إلى أن العرب سبقوا الأمم الأخرى في السياحة، منوّهاً بثلاثة من الرحالة القدامى: ابن حوقل المتوفّي عام 977، كان عالماً متمكناً من الجغرافيا، ومن مؤلفات المتقدّمين. جاب العالم العربي من المشرق إلى المغرب، ووضع كتاباً عنوانه «المسالك والممالك». ابن جبير واسمه محمد بن أحمد. ولد في بلنسية بالأندلس عام 1145، وتوفي في الإسكندرية في مصر عام 1217. قام بثلاث رحلات زار من خلالها مصر والجزائر وفلسطين وجزيرة صقلية ودمشق وحلب، ودوّن وقائع رحلته في كتاب «رحلة ابن جبير». ابن بطوطة (1303 - 1377)، يعتبر بحقّ أشهر رحالة عرفه تاريخ الرحلات، فقد طاف العالم القديم ثلاث مرات واستغرق طوافه نحو 29 سنة، وترجم كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية وغيرها، ويمتاز أسلوب الكتاب بدقة الملاحظة وأمانة الوصف وصدق الرواية.
وتوقف المؤلف عند ظاهرة التوق إلى التغرّب، لافتاً إلى أنها تزداد منذ عشرات السنين ولا تحدّها حاجة مالية أو غيرها من الأسباب وتتخذ أحياناً طابعاً سياحياً، يبدو فاعلاً بقدر ما يكون قاسياً وجذرياً...
من وحي الرحلات
في القسم الثاني من الكتاب يورد المؤلف تفاصيل حول رحلاته من مينسك إلى موسكو إلى بلاد العم سام وإيطاليا ومدينة الضباب، وما واجه من أحداث فضلاً عن تسجيل خصائص تميّز حضارة تلك المدن والبلدان، وملاحظاته حول طريقة العيش ومدى الرقي الذي بلغه مواطنوها. أما في القسم الثالث من الكتاب فيسجل مشاهدات أثّرت به من الناحية الإنسانية في تلك البلدان. ففي مدينة الضباب، وعلى هامش زيارة قام بها إلى العاصمة البريطانية بدعوة من وزارة الخارجية البريطانية والكومنولث عام 1994، للبحث في شؤون البيئة والسلام وحقوق الإنسان، لاحظ أن النظام سائد في كل مكان ويتقيّد به الأجنبي والمغترب راضيَين غير مرغمَين، وأن كل إنسان في بريطانيا يتمتّع بالحرية والعيش الكريم بدءاً بكانس الطرقات وبائع الصحف.في المقابل، لاحظ أن ثمة غربة تسيطر بين الناس فلا يعرف الجار جاره، فلو سقط إنسان من شرفة منزله أو دهسته سيارة لا يقترب منه أحد محاولاً نجدته أو إسعافه. وفي حال سكن أحد في بناية خمسين عاماً وكانت بينه وبين جاره مسافة متر، فلا يخطر ببالهما أن يلقيا التحية على بعضهما البعض يوماً... حول رحلته إلى بافوس يقول د. جهاد نعمان إن «الأذهان الأكثر عقلانية تقف عاجزة أمام مفاهيم كالسعادة. هذا ما لمسته شخصياً في الغرب عموماً وهي تتناقض في تحديداتها... السعادة في بافوس شأنها في كل منطقة ذات تقليد يونانيّ، قائمة دونما زخرفة. فالسماء والشمس تكفيان بل هما غير ضروريين. تنضح السعادة بمجرّد إقامتك فيها ودونما سبب خارجي خاص، يكفي شيء من الملامح الإغريقية لخلق تلك «المعجزة»: التهيؤ بلا قيد ولا شرط (لا أثر لعبارة: نعم... ولكن... التي تميّز المنحى الفكري الفرنسي مثلاً) والاستسلام المطلق للقدر الملائم وغير الملائم». أما في رحلته إلى اسطنبول فلفته تماسك الشعب التركي وتكاتف دول صديقة لتركيا وأخرى غير صديقة لمساعدة البلاد في محنتها بعد الزلزال الذي ضربها في 1999.وبعد جولة له في أوروبا لفتته المظاهر الإنسانية الرامية إلى تخفيف وطأة الشقاء عن بني الإنسان، فقد نادت مدينة جنيف في أثناء وجوده فيها بلزوم الامتناع عن الطعام يوماً واحداً على أن يدفع كل امرئ وكل أسرة نفقات الطعام عن ذلك اليوم إلى الأعمال الخيرية في تلك المنطقة. وفي فرنسا لفتته مبادئ كثيرة تطبقها لخير الإنسان منها أن الروح الوطنية الحقيقية تقضي بالإقرار بأن الوطن ليس واقعاً أو نظام مصالح وحسياً، إنما هو أيضاً شخص معنوي ينطوي على قيمة حقيقية...من رحلاته حول العالم يعود إلى وطنه لبنان ويتوقف عند مظاهر سلبية يعانيها اللبنانيون، من مؤامرات تستهدف هذه الأرض إلى وقوفهم على أبواب السفارات طلباً للهجرة، فضلاً عن الآفات الاجتماعية التي تقضّ مضجع مواطنيه. يختم المؤلف كتابه بفصل «بين الأرض والسماء»، يشير فيه إلى أنه من خلال طوافه في العالم «رأيت كيف اتحدت شعوب مختلفة وأعراق متباينة وألسنة متنافرة وأقوام متباعدة أساساً فألفت مع ذلك إقليماً واحداً وأمة متحدة».