في شهر أغسطس عام 1991 وقفتُ أمام النافذة في المكتب الرئاسي في مقر جمهورية روسيا السوفياتية، الذي يُعرف بالبيت الأبيض، ورحت أراقب صورة مذهلة: إلى اليسار اصطفت دبابات كاملة التجهيزات في مشهد لم يسبق لهذه المدينة أن رأته إلا أثناء العروض العسكرية، وإلى اليمين رأيت موكباً من سيارات السيدان السوداء اللامعة التي حملت على أغطية محركاتها أعلام دول غربية.

في ذلك اليوم، قبل 25 سنة، أعلن الشعب الروسي رأيه بوضوح وصراحة، وبحلول الظهيرة كان قد أحاط بالبيت الأبيض آلاف الرجال والنساء الذين حملوا الأزهار، واللافتات، والآلات الموسيقية، مع أنهم كانوا مستعدين للقتال بأيديهم إن دعت الحاجة. شكّل هؤلاء جداراً بشرياً، وتعهد أمامهم أول زعيم منتخب من الشعب في روسيا، الرئيس بوريس يلتسن، بالدفاع عن الحرية. قطع هذا الوعد وهو يقف فوق إحدى الدبابات التي كان خصومه قد أرسلوها، فيما راح طاقم الدبابة، والجنود الآخرون، وآلاف المواطنين الروس يهللون له.

Ad

اكتسب هذا الوعد الإصلاحي، الذي قُطع في أواخر شهر أغسطس عام 1991، الزخم في الأيام والأشهر التي تلت، فقد انهار نظام الحزب الشيوعي الدكتاتوري، ومعه دفن الاتحاد السوفياتي نفسه، وحل محله في شهر ديسمبر من تلك السنة اتحاد دول مستقلة شمل روسيا وأوكرانيا، وقام هذا الاتحاد سلمياً على احترام سيادة كل من المشاركين فيه ووحدة أراضيه، كذلك أقدمت الحكومة الروسية على خطوات جريئة نحو اقتصاد السوق، وإجراء انتخابات حرة وعادلة لاختيار مسؤولي الحكومة، والأهم من ذلك كله حرية الصحافة.

في شهر فبراير عام 1992، وقّع يلتسن وجورج بوش الأب إعلاناً في واشنطن ورد فيه: "ما عادت الولايات المتحدة وروسيا تعتبر إحداهما الأخرى خصماً محتملاً"، وأعلنتا أن "العلاقة بينهما ستقوم [منذ ذلك الحين] على الصداقة والشراكة، اللتين ترتكزان على الثقة والاحترام المتبادلَين وعلى التزام مشترك بالديمقراطية والحرية الاقتصادية". وفي غضون سنة وقعت الدولتان اتفاقاً نصّ على الحد من خطر الحرب النووية بشكل جذري بإقدام كلا الطرفين على تخفيضات كبيرة في ترسانتهما النووية، لكن هذه البداية الجديدة الواعدة في العلاقات الروسية-الأميركية في مطلع تسعينيات القرن الماضي تبدو مستحيلة اليوم.

من المؤسف أن روسيا لم تتقيد بالتزامها بالديمقراطية والحرية الاقتصادية، فقد علق الاقتصاد الروسي بين مطرقة السوق الحرة وسندان سيطرة الدولة، مع استعادة المسؤولين هيمنتهم على وسائل الإعلام وتلاعبهم بالانتخابات. غض بوريس يلتسن المريض نظره عن هذا الانحدار، في حين جنى منه خلفه المختار، المقدم السابق في الاستخبارات السوفياتية (KGB) فلاديمير بوتين الكثير من الفوائد، خصوصاً بعد عودته إلى سدة الرئاسة عام 2012، فلا عجب أن يعاني الناتج الإجمالي المحلي في تلك السنة الركود ويتفاقم التوتر السياسي الداخلي.

رداً على هذه الصعاب عزز بوتين جهوده في المسار المناهض للإصلاح، متهماً الولايات المتحدة بأنها تثير الاضطرابات في روسيا بدعمها المعارضة الموالية للديمقراطية، وعرقلتها حرية روسيا بالتصرف في الخارج، ويشكّل الاستيلاء على القرم وتحفيز الحركة الانفصالية المسلحة في أوكرانيا الركيزتين الأخيرتين في سياسة النظر إلى الوراء التي يتبعها الكرملين، لكن العقوبات التي فرضها الغرب كرد على هذا السلوك والعقوبات المضادة التي فرضتها روسيا نفسها حدّت من التجارة والاستثمار الأجنبيين، مما ضاعف الضربة القوية التي تلقاها الاقتصاد الروسي القائم على التصدير مع انهيار أسعار النفط.

يذكر أن أسعار النفط كانت أكثر انخفاضاً قبل 25 سنة والصعوبات الاقتصادية أكثر تعقيداً، إلا أن الجو العام في روسيا بدا مختلفاً، ففي الوقت الراهن أعادت الأزمة الحالية إحياء الشعور بالانهيار وعقلية الحصار في التعاطي مع العالم، لكننا في الماضي اعتبرنا تحدياتنا الكبيرة فرصاً للتقدّم في الداخل والتعاون مع أهم الدول في العالم.

آمل أن يتذكر الأميركيون ويقدّروا إعلان واشنطن عام 1992، لأن الشعب الروسي سينهض عاجلاً أو آجلاً للدفاع مرة أخرى عن مستقبله، وستلتقي هاتان الأمتان العظيمتان مجدداً لبناء علاقة تقوم على الثقة والاحترام المتبادلين والالتزام المشترك بالديمقراطية والحرية الاقتصادية.

* أندري كوزيريف | Andrei Kozyrev