منذ أن اتخذ مجلس الوزراء قراره الخاص برفع أسعار البنزين ليتم تطبيقه في مطلع سبتمبر المقبل، ولا حديث في الشارع الكويتي إلا عن الغلاء المتوقع نتيجة رفع أسعار مادة أساسية للمستهلكين.

ورغم تصاعد المخاوف اجتماعيا واقتصاديا من حدوث تضخم في الأسعار، إلا أن مجلس الوزراء انحرف في المعالجة عن الاتجاه الصحيح لمنع حدوث هذا التضخم، كما انحرف سابقا في اعتبار زيادة أسعار البنزين أحد الحلول لتجاوز عجز الميزانية، رغم وجود اختلالات اقتصادية أخرى أعمق وأكثر تأثيرا على الميزانية والايرادات من رفع سعر سلعة استهلاكية عائدها المالي لا يتجاوز 1.75 في المئة من إجمالي العجز المتوقع خلال السنة المالية.

Ad

فمجلس الوزراء في جلسته الأخيرة كلف وزارتي التجارة والشؤون منع «ارتفاع الأسعار غير المبرر والإجراءات المتخذة مع مخالفي القوانين واللوائح المنظمة لضبط اسعار السلع»، وهو إجراء في ظاهره جيد، لكن على الصعيد العملي غير واقعي وبعيد عن أوجه محاربة الغلاء وضبط الأسعار ومكافحة التضخم، فالأولى من مراقبة السوق هو حماية المنافسة ومحاربة احتكار السلع وتحقيق قدر عالٍ من تكافؤ الفرص بين المورد والموزع في السوق، لمنع امتياز أحدهما على الآخر، مما ينتج عنه ممارسات احتكارية، وإن ظهرت بمظهر المنافسة.

قانون الوكالات

فمثلا، قانون الوكالات التجارية الذي أقره مجلس الأمة بداية العام الحالي، رغم أنه يسمح بتوريد السلعة عبر أكثر من وكيل، لم يعالج مسألة أساسية تتعلق بامتياز «الوكيل القديم» عن أي وكيل جديد، بل إنه في حقيقته جعل المنافسة ظاهرية، وليست جوهرية، أي أنه نظم العلاقة بين حائزي امتيازات الاراضي وما يرتبط بها من مخازن ومعارض ومصانع، من دون ان يحفظ تكافؤ الفرص لأي مستثمر جديد او صاحب مشروع صغير او متوسط لم يحصل على امتياز الاراضي من الدولة! وهو ما كشف عنه وزير التجارة والصناعة الذي اعترف بأن القانون (الوكالات التجارية) يهدف لتنظيم العلاقة بين الوكلاء المحليين من جهة والوكلاء والشركات الأم في الخارج من جهة أخرى، ولا علاقة له بالمستهلكين!

لقد أهمل قانون الوكالات التجارية مسألة مهمة في أي سوق، وهي ضمان المنافسة وتكافؤ الفرص بين المتنافسين، الأمر الذي يجعل اي «وكيل قديم» قادرا على التحكم في السوق متى ما أراد عزل أي مستثمر جديد، مدعوما بالامتيازات الممنوحة من الدولة، وهذه الضمانات بكل تأكيد اكثر تأثيرا واستمرارية من رقابة اسعار لا علاقة لها بالعرض والطلب.

هيئة المنافسة

بالطبع لا يقتصر الأمر على قانون الوكالات التجارية الذي لم تصدر حتى الآن لائحته التنفيذية، بل يمتد وبشكل مباشر الى جهاز حماية المنافسة الذي صدر قانونه عام 2007 وبدأ في عام 2016 بباكورة أعماله عندما أصدر دراسته الخاصة بـ « تحسين أداء أسواق مزادات الأسماك في الكويت»، وهو الملف الذي دعا فيه مجلسُ الوزراء هذا الاسبوع لاتخاذ تدابير للحد من ارتفاع أسعار الاسماك، بمعنى أن العمل الوحيد لهذا الجهاز في حماية المنافسة تحول لاحقا إلى أزمة تهدد الأمن الغذائي للمستهلكين في الكويت!

التضخم

حسب بيانات الإدارة المركزية للإحصاء، فإن التضخم في الكويت يرتفع 3 في المئة على أساس سنوي، وإن الارتفاع بنسب متفاوتة يشمل مجموعات الاغذية والملبوسات والمساكن والمعدات والصحة والتعليم والاتصالات وحتى الفنادق والمطاعم وخدمات الترفيه، وبالتالي فإن الامر اكبر بكثير من مجرد مراقبة فرق تفتيشية لاسعار نقاط بيع المنتج النهائي، بل إطلاق المنافسة في السوق جعل آلياته الخاصة بالعرض والطلب هي من يتحكم بالأسعار، وهو ما سيفضي في النهاية الى كبح التضخم حتى من دون رقابة من أي طرف، أو على الأقل تكون الرقابة حينها لجودة المنتج وضمان عدم تعرض المستهلكين للغش أو التلاعب في المواصفات.

لدى معظم المستهلكين في الكويت تجربة إيجابية مع المنافسة التي صبت في النهاية لمصلحتهم، خصوصا في قطاعات الاتصالات والطيران والتأمين، إذ أفضت المنافسة من بعد احتكار إلى تحسن لافت في مستويات الاسعار والخدمات والعروض وباتت الشركات تتسابق على المستهلكين، رغم أن المنافسة في هذه القطاعات جزئية ومرتبطة بموافقة الدولة على اصدار التراخيص، لكنها اعطت نتائج ايجابية في السوق دون حاجة الى مراقبة للاسعار أصلا.

الانحياز للمستهلك

هدف الدولة المنطقي هو الانحياز للمستهلك، لذلك يجب الا يمس قطاع مهم كالجمعيات التعاونية خصوصا في ظل توجهات حكومية لرفع الاسعار، فالجمعيات تبقي درجة مهمة من التوازن في السوق ووجودها بقيمها التعاونية وتوفيرها لقدر عال من المنافسة والتنوع أهم من فرق التفتيش والرقابة في الاسواق، وإذا كان في بعض التعاونيات مخالفات مالية فالأصل هنا معاقبة المتجاوزين دون المساس بالقطاع التعاوني.

من الضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن السياسات الحكومية الخاصة بتحرير الاسعار سترتبط بعوامل التضخم في السوق، وبالتالي يجب الا يصدر اي قرار بإعادة تسعير السلع الا مع دراسة معلنة للآثار التضخمية المتوقعة، مع التأكيد على ان المنافسة بمعناها الحقيقي الذي يوفر تكافؤ الفرص بين المستثمرين في السوق هو الحل الدائم لمكافحة اي غلاء مصطنع، وليس فرق التفتيش والرقابة التي يرتبط أثرها بالمدى القصير.