كويت الزمن الجميل
لا أرغب في عقد مقارنة بين الماضي والحاضر، ولا أعرف كيف أقدم نموذجاً عاماً يمكن أن يسير بالوطن نحو المجد رغم كل الإمكانات المادية والبشرية في ظل تراجع غالبية مؤشرات قياس الأداء على المستوى التعليمي والصحي والاقتصادي والبيئي والاجتماعي، فالنهضة تتطلب تمكين الكفاءات والبعد كل البعد عن المحاصصة.
جمعني لقاء بالسيد سيف الجروان تلك الشخصية التي جمعت كرم الأخلاق والتواضع، رغم شغله عدة مناصب وزارية ودبلوماسية في دولة الإمارات العربية، وحديثه عن الزمن الجميل لدولة الكويت أثناء توليه منصب سفير.السيد سيف الجروان قال عن لقاء له ومجموعة من السفراء على دعوة عشاء أقامها على شرفهم سمو الأمير الراحل الشيخ صباح السالم، طيب الله ثراه: توجهت بسؤال لسمو الأمير عن سبب خروجه إلى قصر الإمارة في الصباح الباكر قبل بداية الدوام الرسمي للموظفين، وهناك من يسدّ عنك، بشخص سمو ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء الشيخ جابر الأحمد، طيب الله ثراه، آنذاك؟ فراح يتذكر بوعلي ابتسامة سموه التي علت محياه قائلاً، والحديث لسمو الأمير: "أولاً سأسمح لك بالدخول معنا في الموكب كي لا تتأخر أنت عند الوصول إلى مقر عملك، وثانياً سأقول عن سبب حرصي بأن أكون حاضراً بمكتبي في ساعات الصبح الباكر، وذلك كي لا أدع مجالاً لأي مسؤول من كبار موظفي الدولة بالتأخير عند معرفتهم بأني أتابع عملهم".
تلك الأيام كانت فيها الكويت درة الخليج والدولة الواعدة في المنطقة، فالعمل فعلاً كان عبادة وثقافة سائدة بين أفراد المجتمع، فلك أن تتخيل حجم الانضباط بالعمل، فلا فرق بين العسكري والموظف العام، فعلى سبيل المثال مفتشو النظافة كان عملهم يبدأ عند الساعة الخامسة فجراً وبالزي الرسمي، وهكذا حال الموظفين في بقية دوائر الدولة.في تلك الأيام غالبية الآباء من الأميين لكنهم كانوا يحرصون على متابعة التحصيل الدراسي لأبنائهم، وهناك ضوء أخضر للمدرسين من قبل أولياء الأمور، فما زلت أتذكر عبارة أبي الشهيرة للمدرسين: "لنا العظم ولكم اللحم"، في إشارة تعطي الضوء الأخضر للمدرس بألا يتساهل معي، إذا كان هناك تقصير في الشق الدراسي والأخلاقي، وهم كانوا يتلقونها بقدر عال من المسؤولية الأبوية. في تلك الأيام الجميلة لم نكن نسمع بالمدرس الخصوصي، ولا يسمح لنا بالبقاء خارج المنزل في ساعات الليل الأولى، فموعد الذهاب إلى النوم محدد، وفي الغالب لا يتجاوز الساعة التاسعة والنصف مساءً، أما الرحلات والزيارات فكانت تقتصر على المناسبات والأعياد والعطل الرسمية، وغير ذلك كان حلما، على الأقل لم أره في طفولتي وفي فترة المراهقة، رغم طيبة قلب أبي وأمي.صدقوني لا أرغب في عقد مقارنة بين تلك الأيام وهذه الأيام، ولا أعرف كيف أقدم نموذجاً عاماً يمكن أن يسير بالوطن نحو المجد رغم كل الإمكانات المادية والبشرية في ظل تراجع غالبية مؤشرات قياس الأداء على المستوى التعليمي والصحي والاقتصادي والبيئي والاجتماعي.النهضة تتطلب تمكين الكفاءات من أبناء الوطن والبعد كل البعد عن المحاصصة التي صارت كالجدار الفاصل أو كالأمواج العالية والرياح العاتية مهمتها تكسير الطاقات وتحطيم الآمال. أكتفي بهذا القدر من المقال، فلم يعد قلمي قادراً على إكمال بقية الفكرة، وليس بيدي إلا الدعاء بحفظ الكويت وأميرها وأهلها من كل سوء، وأن يسدد بصيرة أولي أمرنا وأن يرزقهم البطانة الصالحة.ودمتم سالمين.