البيانات الضخمة ومخاطرها المستترة
لا مركزية اتخاذ القرارات من الممكن أن تخلق أشكالا من التآزر والتضافر بين الذكاء البشري والآلي من خلال عمليات التطور المشترك الطبيعي والاصطناعي، وقد يعمل الذكاء الموزع في بعض الأحيان على التقليل من الكفاءة في الأمد القريب، لكنه يقود في نهاية المطاف إلى مجتمع أكثر إبداعا وتنوعا ومرونة.
![بروجيكت سنديكيت](https://www.aljarida.com/uploads/authors/176_1682431716.jpg)
مع امتداد شبكة الإنترنت إلى عوالم جديدة من الفضاء المادي من خلال "إنترنت الأشياء"، يُصبِح ثمن الفوضى مقياسا حاسما في مجتمعنا، وستتزايد قوة إغراء إزالته بالاستعانة بقوة تحليل البيانات الضخمة.والأمثلة كثيرة، ولنتأمل هنا الممارسة المألوفة المتمثلة بشراء كتاب عن طريق أمازون على الإنترنت، الواقع أن شركة أمازون تحتفظ بجبل من المعلومات عن كل مستخدميها- من أوصافهم العامة إلى تاريخ بحثهم إلى الجمل التي يضعون عليها علامات إبراز في الكتب الإلكترونية- والتي تستخدمها للتنبؤ بما قد يرغبون في شرائه في المستقبل، وكما هي الحال في جميع أشكال الذكاء الاصطناعي المركزي، تُستَخدَم الأنماط السابقة للتنبؤ بأنماط المستقبل، وبوسع أمازون أن تنظر إلى آخر عشرة كتب اشتريتها، فتقترح بقدر متزايد من الدقة الكتاب التالي الذي ربما ترغب في قراءته.ولكن هنا ينبغي لنا أن نضع في الاعتبار ما قد نخسره عندما نحد من مستوى الفوضى، فالكتاب الأكثر أهمية الذي ينبغي لك قراءته بعد تلك الكتب العشرة السابقة ليس الكتاب الذي ينسجم بشكل أنيق مع نمط ثابت، بل ذلك الذي يفاجئك أو يدعوك إلى النظر إلى العالم بطريقة مختلفة.وخلافا لسيناريو تدفق حركة المرور الموصوف أعلاه، فإن الاقتراحات الأمثل- التي ترقى غالبا إلى نبوءة ذاتية التحقق لعملية الشراء المقبلة التي تقوم بها- قد لا تكون أفضل نموذج لتصفح الكتب على الإنترنت، ومن الممكن أن تعمل البيانات الضخمة على مضاعفة خياراتنا في حين تغربل الأشياء التي لا نريد أن نراها، ولكن هناك من الحجج ما قد يُساق لاكتشاف الكتاب الحادي عشر من خلال المصادفة البحتة. وما يصدق في حالة شراء الكتب ينطبق أيضا على العديد من الأنظمة الأخرى التي يجري تحويلها رقميا، مثل مدننا ومجتمعاتنا، فالآن تستخدم الأنظمة البلدية المركزية خوارزميات (نُظُم للحلول الحسابية) مصممة لمراقبة البنية الأساسية الحضرية، من إشارات المرور واستخدام أنفاق المترو، إلى التخلص من النفايات وتسليم الطاقة، والواقع أن العديد من رؤساء البلديات والمدن في مختلف أنحاء العالم مفتونون بفكرة غرفة التحكم المركزية، مثل مركز عمليات ريو دي جانيرو الذي صممته شركة آي بي إم، والذي يسمح للقائمين على إدارة المدينة بالاستجابة للمعلومات الجديدة لحظيا.ولكن مع اقتراب الخوارزميات المركزية من إدارة جوانب المجتمع كافة، تهدد الأنظمة التكنوقراطية التي تعتمد على البيانات بسحق الإبداع والديمقراطية، ولا بد من تجنب هذه النتيجة بأي ثمن، وإن عملية اتخاذ القرار اللامركزية تشكل أهمية بالغة لإثراء المجتمع، وعلى النقيض من هذا فإن نزعة توخي الأمثل استنادا إلى البيانات تستمد الحلول من نموذج محدد سلفا، والذي يستبعد في هيئته الحالية غالبا الأفكار التحويلية أو المعاكِسة للتوقعات البدهية التي تدفع البشرية إلى الأمام.ويسمح قدر معين من العشوائية في حياتنا بنشوء أفكار أو طرق جديدة في التفكير ما كانت لتصبح متاحة لولا ذلك، وهذا القدر من العشوائية ضروري على المستوى الكلي للحياة ذاتها، فلو استخدمت الطبيعة خوارزميات تنبؤية تحول دون حدوث طفرة عشوائية في استنساخ الحمض النووي، فربما كان كوكبنا سيظل في مرحلة الكائن الوحيد الخلية الأقرب إلى الكمال.إن لا مركزية اتخاذ القرارات من الممكن أن تخلق أشكالا من التآزر والتضافر بين الذكاء البشري والآلي من خلال عمليات التطور المشترك الطبيعي والاصطناعي، وقد يعمل الذكاء الموزع في بعض الأحيان على التقليل من الكفاءة في الأمد القريب، لكنه يقود في نهاية المطاف إلى مجتمع أكثر إبداعا وتنوعا ومرونة، ومن المؤكد أن ثمن الفوضى يستحق أن ندفعه إن كنا راغبين في الحفاظ على الإبداع من خلال المصادفة البحتة.كارلو راتي - Carlo Ratti * كارلو راتي مدير مختبر سينسبل سيتي (Senseable City Laboratory) في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ورئيس مجلس الأجندة العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي لشؤون مدن المستقبل، وديرك هيلبينغ أستاذ العلوم الاجتماعية الحاسوبية في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا (ETH) في زيوريخ، ورئيس مبادرات FuturICT وNervousnet.«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»
قدر معين من العشوائية في حياتنا يسمح بنشوء أفكار أو طرق جديدة في التفكير