نحن في بحبوحة أيام خالصة لفصل الصيف في لندن، والصيف الجيد فيها هو مجرد اعتدال المناخ فقط. ما من مطر مُلح على عادته إذا ما هطل، ولا حرارة رطبة بصورة خانقة. حسنات كهذه تليق باحتضان احتفال موسيقي بالغ الرقة، وبالغ الثراء كاحتفال "البرومز"، الذي يمتد لشهرين، من منتصف يوليو حتى منتصف سبتمبر. عادة ما أتابع الأعمال التي تعزف فيه عن طريق راديو 3، الذي أدمنت عليه عبر أكثر من ثلاثين سنة.

ولكن أتيحت لي هذه الأيام فرصتان لحضور الحفل الحي، في مقاعد يحسدني عليها 4000 مشاهد من 5000، تحملهم "قاعة ألبيرت الملكية" الهائلة الحجم في راحتها تحت القبة السامقة. هذا، إذا ما قدرت عدد المشاهدين في مدرجاتي بألف. الحفل الأول ليسمفونية بيتهوفن الخامسة، مع عملين حديثين، سأهمله لمصلحة الأمسية الثانية، لأنها تتمتع بمزايا تستحق التفصيل.

Ad

هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها "مارثا أرجيرش" Martha Argerich، عازفة البيانو الأرجنتينية، التي فتنتني بصباها ذي المسحة الشرقية في الثمانينيات. جمالها أولا، بتقاسيم الوجه الذي يتمتع بجاذبية حسية وروحية في آن. ولعل ما يعزز الجاذبية الحسية تلك الشعر الأسود الفاحم، الذي ينحدر بكثافة فيغطي صفحتي الوجه والكتفين.

اليوم بلغت الخامسة والسبعين، يعلن ذلك الشعر الذي بقي على مهابة حضوره، وقد وخطه الشيب، أو غمره بكثافة. على أن هذا العمر لم يتسلل أنملة إلى أطراف أصابعها، التي تتقافز على مفاتيح البيانو وكأنها تعبث. خاصة في العمل التي عزفته لنا، وهو "كونشيرتو البيانو لـ "فرانتس ليست".

فهذا العمل صعب، وربما عصي على الأصابع غير الاستثنائية في البراعة. ومارثا نجم عالمي اليوم، وحقل مهارتها في العزف يتسع لكل المراحل الموسيقية، من باخ إلى الرومانتيكية، والحديثة لدى ﭙروكوفييـﭪ وراﭭيل.

الهنغاري فرانتس ليست (1811 ـ 1886) Liszt كان ذا أصابع استثنائية مع مفاتيح البيانو دون شك؛ وهو يقرن بالإيطالي باﮔانيني (1782 ـ 1840) Paganini نجم آلة الـﭭايولين دون منازع. كلاهما نجم زمنه في العزف، وكلاهما أسهم في التأليف الموسيقي أيضاً. ولكن نقاد الموسيقى ومتذوقيها لا يطمئنون إلى أعمالهما، التي تتطلب براعة كبراعتهما عند العزف. لأنهم يرون في هذه البراعة مظاهرة عضلية، وفظاظة أحيانا. فالصفة العضلية، شأنها في كل نشاط إبداعي، تخلو من العمق، ومن حمى العاطفة الأصيلة. حتى أن نقاد مرحلة "ليست" كانوا يرونه "عبقرياً في العزف" و"صفرا في التأليف".

هذا لا يعني خلو أعمالهما جميعا من هذا العمق، وهذه الحمى. خاصة لدى "ليست" في أعماله على البيانو المنفرد، الغزيرة بصورة فائقة للعادة. كونشيرتو البيانو الأول هذا في حركات أربع تُعزف دون توقف وتمتد لثماني عشرة دقيقة فقط، على غير عادة الكونشيرتو الرومانتيكي في زمنه. يبدأ بمفتتح يوقظ كل حاسة، يذكر بمفتتح الخامسة لبيتهوفن، مع الفارق الكبير بين مسعى المفتتحين. فضربات بيتهوفن الثلاث، وقد سمع فيها الآخرون ضربات قدر لا مهرب منه، تتواصل ظاهرة وخفية على امتداد العمل. وهي نتاج تجربة روحية، مقارنة بتجربة تقنية عند "ليست".

الأوركسترا التي تقدم الكونشيرتو والأعمال الأخرى (ﭭاﮔنر والمعاصر الشاب وِدْمان) هي "أوركسترا الديوان الغربي ـ الشرقي" التي أسست عام 1999، على يد كل من عازف البيانو وقائد الأوركسترا بارنبويم Barenboim، والمفكر الأميركي/ العربي إدوارد سعيد. كانت مسعى تقارب بين الفلسطيني/ العربي من جهة والإسرائيلي، وأعضاؤها من شبيبة الطرفين. وهي اليوم من الفرق الناشطة عالمياً.

بعد كونشيرتو "ليسْت" القصير نسبياً، لم تشأ "مارثا" أن تودع جمهورها دون محاولة إشباع إضافية. وبصحبة بارنبويم، كعازف هذه المرة، قدمت عملا ثنائيا لم أتعرف عليه أول الأمر، ولكني كنت على يقين بأنه ليس لـ "ليست". كان "روندو" لشوبرت يمتد 12 دقيقة، لمح فيه أحد نقاد اليوم التالي "ومضة سماوية"، وسط ضخامة مهيمنة. في اليوم الثاني سمعت العمل الشوبرتي هذا أكثر من مرات أربع، كانت كفيلة بأن تريني تلك "الومضة" الحبيبة. لك أن تسمع Rondo العازفين على هذا الرابط:

https://www.youtube.com/watch?v=qfMU1jORNyA