لا ريب أن فكرة التسامح الديني تشغل مركزا جوهريا في مجتمعات أميركا الشمالية وأوروبا، بسبب كونها إرثاً تاريخياً للحروب الأوروبية الدينية، فهذه الحروب التي شقت طريقها عبر خراب متواصل ودمار أهلي لا تزال تصفع الذاكرة منبهة لها على قدر الطاقة التقويضية الهائلة التي تحوزها. واليوم وعلى الرغم من الإغواء الشديد لمفهوم الخلاص في أجواء تتسم بتحولات كونية تصيب مصاير البشر، يحظى التسامح الديني في المجتمعات المتمدنة باعتراف واسع باعتباره النموذج الأعلى للتعايش وصون الانتظام المدني، ويكتسب هذا الزعم وجاهة ومصداقية لا سبيل إلى دحضهما مقارنة بما تشهده العديد من الأماكن في العالم من صراعات قاتلة تستمد طاقتها من الانقسامات الدينية.

وللحق فإن فكرة التسامح الديني يبدو من السهل قبولها مقارنة بأفكار العنصرية والطائفية وبقية صنوف الكراهية، ولعل المثال الباهر الذي يشير إلى ذلك يجسده المبدآن التوأمان للتعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الأميركية: "لا يصدر الكونغرس أي قانون خاص باعتماد أي دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته"، فقبول المرء بهذه المبادئ يعود على الجميع بالمنفعة العظيمة، وفي الوقت عينه لا يلقي على عاتقه أية أعباء، فالمرء حين يكف عن اختراق الفضاء الديني للآخرين وطريقة ممارستهم لشعائرهم فإنه تلقائيا يصدهم عن اقتحام حيزه الديني الخاص.

Ad

ويتبدى واضحاً ها هنا أن التسامح الديني يزيل ضربا من التوتر الاجتماعي والأهلي طالما أن المرء– فيما يخص الممارسة الدينية– يغدو غير معني ولا تتملكه الرغبة في أن يحدد للآخرين الدين الذي يتعين عليهم أن يعتنقوه، أو أن يرغمهم على انتهاج عقيدة ما، فذلك قبل كل شيء ينزه المجتمع عن فرز لن يتأتى عنه سوى التصدع الاجتماعي في أكثر صوره بؤسا.

في سياق كهذا يلوح التسامح الديني وكأنه هدنة اجتماعية يقبلها المجتمع بوصفها بديلا للصراع الدموي المسعور، ومن جانب آخر فإنه يفتح الطريق أمام رؤية جديدة تنأى بنفسها عن وطأة الروايات التاريخية المتضاربة والصراعات الضارية في المصالح والأفكار.

وواقع الحال أن التسامح الديني لا يدوم في ظل إنكار مبدأ حرية التعبير وتجاهلها، والتي تشكل ركيزة أساسية في قيام أي طراز من التسامح، إذ إن كل مجتمع عادل ومتسامح يتحمل مسؤولية حماية حرية التعبير، وهذا الأمر لا يقتصر على مظاهر شكلية من قبيل إلغاء الرقابة على حرية التعبير، ولكن يتطلب أن يمتلك الأفراد والجماعات بعض الوسائل الفعالة للتعبير عن وجهات نظرهم وبسطها أما المجتمع العريض.

إن التسامح ينطوي على تقبل آراء أولئك الذين يختلفون عنا والنظر إليهم بوصفهم متساوين معنا، ومفهوم المساواة هنا يقصد به الانتفاع العادل من الحقوق القانونية والسياسية الأساسية، أما الإقصاء والتهميش فلن ينتجا سوى جماعات منمطة وغامضة تنظر كل منها إلى الأخرى على أنها مصدر تهديد وتختزن نوايا شريرة، بحيث تتحول البيئات الضيقة إلى حقول خصبة لحراثة الدمار والموت.