توماس هاردي، روائي وشاعر من العصر الفيكتوري، وُلد عام 1840، وتوفي عام 1928. وعلى الرغم من مرور 88 عاما على وفاته، فإن نوره مازال مشعا في بريطانيا، وكأنه لا يزال حيا فيها.

رواياته رومانسية واقعية، من أشهرها واحدة منها عرفتني به، وهي "بعيدا عن صخب الحياة" تحولت إلى فيلم سينمائي ناجح، وكل رواياته بشكل عام كُتب لها النجاح الجماهيري.

Ad

ترك عمله كمهندس، وقرر أن يعيش في الريف الرائع، حيث وُلد وترعرع فيه، بمقاطعة دورسيت الجميلة في قرية بوكهامبتون، لأنه لم يتحمل الحياة الطبقية في العصر الفيكتوري.

شيَّد له أخوه منزلا قرب بيت العائلة المحبة المترابطة، يعملون جميعهم كمقاولين في مهنة التعمير والبناء؛ جده ووالده وأخوه، وهو أيضا مهندس معماري صمم منزله.

وفاة زوجته الأولى أحزنته كثيرا، رغم الانفصال وخلافاتهما الكثيرة، إلا أن موتها جعله يكتب فيها أجمل وأقوى أشعاره، وتعد من أقوى وأعمق المرثيات، والأكثر صدقا في الشعر الإنكليزي.

الغريب أن شعره في بداياته لم يلتفت إليه أحد، لكنه الآن يُعد من أهم وأكبر شعراء القرن العشرين، والكثير من الشعراء تأثروا بشعره والناس أيضا، وهذا ما لاحظته عند زيارتي لبيته والريف الرائع حوله. كانت كثافة الحضور لا يتسع لها المكان، لدرجة أن الدخول منظم وفق الخروج، ومنظم بالساعة، فمن يخرج في الساعة الواحدة مثلا هناك من يدخل في هذا الوقت، ولك أن تنتظر حتى تحين ساعة دخولك.

الجميع ينتظرون دورهم بمختلف الأعمار، وطلاب المدارس بمختلف مراحلهم، كلهم جاءوا ليعيشوا ساعات داخل حياة شاعرهم وكاتبهم العظيم، ليروا غرفة نومه، ومكان جلوسه وكتابته، وأقلامه وأوراقه، وصفحات مدونة بخط يده، وكل متعلقاته ومتعلقات أسرته. الناس هنا تقدر الشاعر والكاتب، لدرجة الهوس والعبادة.

"الناشونال ترست"، وهي المؤسسة المشرفة على إدارة كل البيوت والمواقع المشهورة والمهمة في تاريخ وتراث بريطانيا، تعمل على إبقاء ذاكرة مشاهيرها على الدوام حية، فمثلا هناك برنامج حافل طوال العام لإقامة ندوات وأمسيات وحفلات شاي لتوماس هاردي، والدعوات تأتي باسمه واسم زوجته لحفلة شاي مثلا، أو لسماع الموسيقى بحديقته، كما أن هناك مجلة شهرية وجريدة دورية باسمه تسمح بالاشتراك كأعضاء فيها للناس في بريطانيا وللذين خارجها أيضا.

وحددت الأماكن التي كتب عنها أشعاره، وطُبعت في خريطة توزع على الزائرين، حتى يعرفوا المكان الذي قيلت فيه القصيدة.

ورغم اتساع مساحة الحديقة، وهي برارٍ مفتوحة ومتصلة بالغابات لريف دورسيت المبهر، فإن الناس تمشي كل هذه المساحات، لترى منطقة الغزلان التي كتب فيها قصيدة، أو الأرض العشبية، أو طريق الرومان، أو راشي بوند، الزوار يتوقفون فيها وهم مأخوذون بها ويذوبهم الشجن بسببها، يحفظون ما قيل فيها عن ظهر غيب، وكنت مسحورة ومأخوذة بشجن عاطفي غريب وأنا أقرأ شعره فيها، ويتجسد إحساسه كاملا بداخلي، كما شعر وحس بها، وهذا هو سر الشعر العظيم، سأحاول ترجمة بعضها.

1 - نحنُ لا نشعر بتلك العيون/ تراقب من الثلج/ مضيئة بمصابيح الأيام المزهرة / تلتمع بالدهشة / على رؤوس أصابع أربعة.

2 - على الأرضية القديمة / الأقدام والتجويف الرقيق/ هنا كان الباب السابق/ حيث الميته عبرته / جلست هناك على كرسيها / تبتسم للنار/ وهو واقف هناك / في انحناء أعلى وأعلى / نفسه التي لا تُرى.

3- على وجه المستنقع العشبي المتجمد / يتشكل هلال القمر النامي / اثر نفخة أجنحة من الشمال / تهمس بصوت أبح / تحت وفوق وخلف.

4 - الثعابين والخفافيش/ جماعات أيام الصيف ولياليه / الخفاش يطير إلى غرف نومنا / متسلقات الحشائش / تعيش في المرتفعات/ هناك أصدقاؤنا / البريون أوائل القاطنين هنا.

اهتمامه وحبه للطبيعة وكائناتها جعلاه ينشئ جمعية للمحافظة عليها وحمايتها، وأيضا بإمكان أي كان الانضمام إليها والحصول على عضويتها.

هناك كتيب فيه كل أنواع الحيوانات والطيور والحشرات الموجودة في الغابات والتلال حول منزله، ومحدد أوقات وفصول السنة التي تتواجد فيها، مثل اليعاسيب الزرقاء التي ترجمت قصيدتها، وحية الادر، والغزلان ونقار الخشب، والفراشة الزرقاء المقدسة، والبومبل بي.

بيته يعني الكثير للطلاب، فهو ليس زيارة فقط، بل علم طبيعة وحيوان وحشرات.