لا أعتقد أن هناك من لا يزال لم يدرك حتى هذه اللحظة أن الأوضاع المعيشية في الكويت، التي بدأت علامات تأزمها بالظهور والتتابع المحموم، متجهة إلى مزيد من التأزم على كل صعيد، وبالطبع فإن الأمر لا يحتاج إلى كثير من المعرفة أو عميق من الحكمة كي يدرك المرء بلا تردد، وبقليل من القراءة للمشهد وتبصر في حركة الأحداث خلال العقود القريبة الأخيرة، أن ما وصلت إليه الحال ليست سوى نتيجة حتمية لسوء، بل انعدام، الإدارة الحكومية، واستشراء الفساد وتغوله في كل مناحي الدولة، وتضاؤل الرقابة البرلمانية الصادقة، واستحكام الفتور والهزال المجتمعي! في ظل هذا الواقع، الذي صارت تشهد عليه كل الأشياء من حولنا، في هذا البلد المظلوم على يد حكومته وبرلمانه، وأكاد أقول سائر أهله، سواء أكان ذلك بقصد منهم أم دون قصد، وأنا في هذه الجزئية أتكلم عن الناس لا عن الحكومة أو البرلمان، فهؤلاء هم أساس المشكلة، أقول، في ظل هذا الواقع، صار من الواجب أن يتنادى أولئك المخلصون ممن يشعرون بلهيب الواقع للعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وأما أولئك الذين يعتقدون ألا حل أمامنا إلا من خلال الانتخابات القادمة، عبر انتخاب نواب "صالحين مصلحين" يواجهون الفساد والتدهور والتردي، هم في قناعتي، كمن يراهن على أمطار سحاب الصيف. أقول هذا لأن برلماناً تم تجريد آلية الانتخاب فيه من فاعليتها، باختزالها في الصوت الواحد، وهو الذي يثبت العقل وأظهرت التجارب أنه مفضٍ لا محالة إلى المزيد من تكريس الفئوية والطائفية والنفعية، صار بعيدا كل البعد عن أن يقوم على فريق متجانس ذي رؤية وطنية مشتركة وخطة عمل قادرة على التصدي لهذا التردي والفساد، وإنقاذ البلد من ظروفه السياسية والاقتصادية الصعبة، في زمن هو أحوج ما يكون فيه إلى ذلك. والسؤال المعتاد عند هذه النقطة، ما السبيل إذاً إن لم يكن من خلال صناديق الاقتراع والبرلمان؟! البعض يسأل هذا بسوء طوية، حيث يقصد التلميح إلى أننا ندعو إلى الخروج على النظام والثورة، ويجد للأسف من يقع في فخ سؤاله، من البسطاء، وكثير من غيرهم، وهذا غريب ممن يظنون أن الأمر لا يمكن أن يمر إلا من هذين السبيلين، وهو ظن خاطئ تماما. سبل الإصلاح السياسي والحراك الشعبي السلمي الفاعل كثيرة ومتعددة، لمن يريد أن يسلكها حقا، لكنها تشترك جميعا بأنها سبل طويلة ستتطلب بذل مقادير كبيرة من الجهد والوقت والمال، وقد تصير وعرة، بعدما كشرت السلطة عن أنياب كفرها باالديمقراطية ودولة المؤسسات، مما سيستوجب الصبر والتضحية. أغلب الشاكين المنتقدين الناشطين ليل نهار عبر هاشتاقات "تويتر"، ومعهم أولئك الذين يتصدون لهم فيؤدون أدوار المصلحين الاجتماعيين الرافضين لكثرة الشكوى والتذمر دون عمل، هم بنوعيهم ليسوا إلا ظواهر صوتية. هم حالات إنشائية لا تريد في الحقيقة أن تخرج عن عالم رفاهية الرفض الكلامي المحض أو التنظير والتظاهر بالعقلانية، على شاشات الهواتف الذكية، ولا تريد النزول بدلا من ذلك إلى أرض العمل الإصلاحي الحقيقي، وبالطبع لا يصعب على هؤلاء أن يجدوا الأعذار والمبررات لتبرير ذلك، لأنهم بطبيعتهم في الحالتين، من محترفي التلاعب بالألفاظ والرشق بالكلمات. لا أقول هذا الكلام دون تجربة، فقد مررت بالعديد من التجارب مع نماذج من أولئك الأعلى صوتا في وسائل التواصل الاجتماعي، والأبعد ما يكون عن الانخراط والتفاعل مع أي عمل وطني حقيقي على أرض الواقع. خلاصة الأمر أننا مكلفون كأبناء مخلصين لهذا الوطن أن نبذر البذرة الإصلاحية بشكل سليم، وأن نعتني بها ونراعيها حتى تستوي على سوقها لتثمر خيرا، مع ضرورة أن ندرك تماما أن مع هذا العمل لا توجد أي ضمانات بأن القطاف سيأتي سريعا لنا، بل لعله سيتأخر ليكون لأولادنا أو لأولاد أولادنا. نزق الرغبة بالحصول على النتائج السريعة والمكاسب المباشرة هو ما قصم ظهر التحركات الشعبية السابقة، وهو طريق لن يقودنا إلى أي تغيير حقيقي، بل لعله سيسرع من وتيرة التدهور والانهيار. طرق المواجهة والتصدي والإصلاح السلمي، البعيدة عن هذا البرلمان المختطف، كثيرة ومتعددة وفاعلة في محصلتها بعيدة المدى كما ذكرت، منها حشد الإعلام المنهجي المنظم وهو المتاح بكل أدواته، سواء أكان ورقيا أو إلكترونيا، أو كان مقروءا أو مسموعا أو مرئيا، أو كان مباشرا في رسائله أو رمزيا، أو غير ذلك، ولا حدّ للإبداع في هذا الجانب، ومنها كذلك الندوات والمحاضرات والمؤتمرات، والوفود والزيارات وعقد الديوانيات وحشد المسيرات والاعتصامات والإضرابات، ومنها أيضاً التصدي عبر السبل القانونية للمشاريع المخالفة والتجاوزات الإدارية والمالية والقانونية وغيرها. مع ضرورة الانتباه إلى أن الأساس الذّي يجب أن يقوم عليه كل هذا هو أن تكون هذه الفعاليات في مجملها جزءا من استراتيجية عمل شاملة مرسومة بدقة وفقا لرؤية واضحة المرامي والأهداف، وإلا فإن أي عمل منها إن قام منفردا سيكون محض طلقة فارغة في الهواء سيعود بالخيبة والوبال. كما أن حجر الزاوية هنا هو أن تحشد لذلك وتقدم الطاقات الوطنية المخلصة المتخصصة في السياسة والاقتصاد والقانون والإعلام كل في مجاله، وأن تبعد عن المشهد تلك النمور الورقية التي لوثت الساحة بالتصريحات والعنتريات الخرقاء المتعجلة التي أفسدت أكثر مما أصلحت، كذلك وأن تقصى تلك الأسماء التي ثبت عليها التنفع الشخصي والبحث عن الأمجاد الفردية، خصوصا أننا على مشارف انتخابات قرر كثيرون خوضها ويحتاجون لذلك إلى كثير من اللمعان والبريق. نحن إزاء معركة وطنية ممتدة، هدفها الاستراتيجي إنقاذ الوطن من كارثة تحيق به، هدفها المرحلي الأول إيقاظ الوعي لدى الناس، والارتقاء بمستوى الخطاب وأسلوب التصدي لما يجري، واستعادة الحقوق الدستورية التي انتهكت وأولها وعلى رأسها، أن الشعب هو مصدر السلطات جميعا.
مقالات
كيف يكون الغضب الشعبي حقاً؟!
30-08-2016