تقنين الملاحقة

نشر في 31-08-2016
آخر تحديث 31-08-2016 | 00:00
 طالب الرفاعي قرأت خبراً تناقلته وكالات الأنباء العالمية، وكذلك بعض الصحف المحلية، عن قرب نزول تلفون نقال جديد للأسواق. وللتعرف على مميزاته، اتضح أنه تلفون صغير وخفيف وبسيط جداً، فهو لا يوفر للمستخدم سوى خدمة الاتصال وتلقي المكالمات، وذاكرته الحافظة لا تستطيع تخزين أكثر من عشرين رقماً، كما أنه لا يحتوي على شاشة، وبالتالي لا يقدم خدمة الرسائل النصية ولا خدمة التصوير. أحد مصنعي التلفون الجديد أشار إلى أن الخاصية الأهم للتلفون، إلى جانب أن بطاريته تعمل لعشرين يوماً، هي أنه يخلّص الإنسان من ملاحقة وتطفل مستخدمي مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من جهة، ويوفر له وقتاً لشأنه الخاص، بعيداً عن أي إزعاج من جهة ثانية.

الجميع يعرف كيف أن دور الأزياء العالمية تعود بعد سنوات لإعادة "تزويق" واستخدام موديلات العقود السابقة، لتكون الموضة الدارجة. وها نحن اليوم أمام عودة التلفون البسيط الذي بدأ عهداً جديداً للتواصل الإنساني بين البشر. فقد أتعب وأمرض التلفون النقال الذكي أرواح البشر، حتى وصل الأمر إلى وجود تخصص في عيادات العلاج النفسي في أميركا وأوروبا لمعالجة مدمني التلفون.

تجتاح العالم موجة من العنف المتوحش تصل إلى حد إقدام البعض في مختلف بقاع الأرض على قتل أناس أبرياء لا يعرفهم ولا يرتبط بهم بأي رابط، وليس بينه وبينهم أي اختلاف أو عداوة. فقط حظهم العاثر أوجدهم في المكان الخطأ بالتوقيت الخطأ. هذا إلى جانب حروب شرسة مجنونة تغذيها دول كبرى، وأخطر ما في هذه الحروب، قيامها بتدريب أطفال على ممارسة القتل بدم بارد، وهذا ما يخلق جيلاً من القتلة المتمرسين الذين لن يتورعوا عن نقل القتل معهم حيثما ذهبوا.

إن عنفاً وتوحشاً وتدميراً وقتلاً مجانياً تتناقله المحطات الفضائية، وتنشر تفاصيله شبكات التواصل الاجتماعي على مدار الساعة صار يلاحق الإنسان منذ لحظة استيقاظه حتى موعد نومه.

لذا، ومثلما قدم الفكر الإنساني التقني خدمة التلفون الذكي ومحرك البحث وشبكات التواصل الاجتماعي، فإنه بصدد إيجاد الطرق الكفيلة التي لا تقطع تواصل الإنسان بمحيطه الإنساني من جهة، وتنأى به عن الوجع المجاني.

إن عهداً جديداً أطلَّ على البشرية مع ميلاد التلفون الذكي. وإذا كان هذا العهد وفر للإنسان خدمات ما كان يحلم بها، فإنه في المقابل أخذ منه راحة البال والخصوصية، وجعله مستباحاً أمام الآخر، وشرّع بابه أمام بشرٍ ما كان له أن يتواصل معهم حتى في الأحلام.

كل اختراع جديد يقدم ميزة، ويأخذ في المقابل ما يوازيها من روح الإنسان. لذا، فقدَ الإنسان جزءاً كبيراً من سلامه الداخلي بوجود التلفون الذكي في جيبه وأمامه طوال الوقت، كما ضُربت العلاقة الإنسانية الأقرب في مقتل، بسبب انشغال أفراد الأسرة؛ الصغير والكبير، كلٌ بعالمه الخاص، بعيداً عن مخالطة ومعرفة الآخر. بل وهذا هو الأسوأ بدأت أجيال من الأطفال تتربى على عوالم "الآي باد"، بعيداً عن حضن وحنان الأم وصوت الأم وحكاية الأم وابتسامة الأم، ما يخلق أطفالاً باختلالات روحية وعقد نفسية، بعدم قدرتهم على التواصل مع العالم الحي، والاكتفاء بالتواصل مع العالم الافتراضي.

العودة لحياة البساطة باتت حلما مغريا بالنسبة للكثيرين، لكني أظن أنه من المناسب البدء بخطوات بسيطة قد تكون كفيلة بتقديم شيء من الهدوء لأرواحنا. أولى هذه الخطوات، إبعاد أبنائنا الصغار عن الهاتف الذكي وعن الآي باد، وذلك بتوفير وقت بديل لهم بصحبتنا، وقت نقدم لهم فيه لهواً ومعرفة يفرحون بهما، ونقدم لأرواحنا متعة رائعة بصحبتهم البريئة. وثاني الخطوات، هي رجوعنا لكتاب يسلي الروح، ويقدم زاداً فكرياً تعجز عنه الجملة العابرة على شبكات التواصل الاجتماعي.

back to top