وجهت إلى الداعية "فتح الله غولن" أسئلة دينية كثيرة من أتباعه في تركيا وخارجها، سأله أحدهم: لمَ ظهر جميع الأنبياء في شبه الجزيرة العربية؟ وكيف ستتم محاسبة من هم خارجها؟ وكذلك لماذا لا نجد امرأة بين الأنبياء الرسل؟ وتساءل "غولن" في جوابه، وقال مبررا مبدأ اهتمام الخالق بالخلق، واستحالة تركه لهم بدون هداية: "هل هناك أي احتمال أن القادر المطلق الذي خلق هذا الكون وهذا النظام، وجعل هذا الكون معرضا للفن الإلهي بأروع صوره، والذي عرف نفسه لمشاهديه بآثاره وبدائعه، فهل يعقل أنه بعد عرضه كل هذه الآثار والمعارض الربانية ألا يختار أشخاصا متميزين ليقوموا بتعريف ذاته وأسمائه وصفاته إلى هؤلاء المشاهدين المشتاقين، فيكون كل ما عمله من أعمال حكيمة- حاشا لله- عبثا، ويعرض إجراءاته الحكيمة للاتهام؟ بينما كل شيء يخبرنا بلسان واحد وبنغمة واحدة بأن القادر المطلق حكيم في كل شؤونه ومنزه عن العبث ومتعال عن ذلك.

هذا علاوة على أن الله تعالى يقول في كتابه الكريم عن ظهور الأنبياء في كل أمة "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ". (النحل 36)، ولكن البشرية سرعان ما نسيت الدروس التي تلقتها من هؤلاء الأشخاص العظام، وانحرفت عن الصراط السوي عن طريق تقديس وتأليه هؤلاء الأنبياء، فعادت إلى الوثنية مرة أخرى، وهناك مئات من الأوثان التي خلقها الخيال الإنساني ممتدة من جبل الألهة في اليونان حتى نهر كنج في الهند، وهذه الأديان مختلفة في وضعها وشكلها الحالي عن وضعها وشكلها في بداية ظهورها اختلافا كبيرا".

Ad

(أسئلة العصر المحيرة، ص39).

هل البوذية والهندوسية ديانتان محرفتان؟

وهكذا في تفسير "غولن"، فلربما كانت "أديان الشرق الوثنية" الحالية في الهند والصين واليابان أديانا وحدوية تعرضت مع الزمن للتحريف! يقول: "لا يمكن النظر إلى كونفوشيوس الصين أو إلى براهما وبوذا الهند من زاوية الشروط والظروف المعروفة التي هيأت ظروفهم. فالزمن يُبلي كل شيء، وتتغير خلاله نظرات الإنسان وقيمه، لذا من الصعوبة بمكان تخمين المدى الذي تغير وضع وموقف هؤلاء عن الوضع والموقف الأصلي في البداية".

ويقارن ما جرى لتلك الأديان التي لا نعرف ما جرى لها بالديانة المسيحية التي يؤمن المسلمون أنها تعرضت في كتابها المقدس للتحريف، فيقول: "لذا فإذا كانت المسيحية قد حرفت كتابها ونبيها كل هذا التحريف وهي قريبة الظهور من عصرنا، إذاً فكم من مسيح وجد في القرون الأبعد، وكم منهم تعرض إلى تحوير وتحريف صورهم. وكما نعلم أن هناك كلاما نبويا يقول إن حواري كل نبي يؤدون وظائفهم بعد رحيل النبي، ولكن الذين يأتون بعدهم يقلبون كل شيء رأسا على عقب، وهذا قول مهم. أجل! فكم من دين نراه الآن دينا باطلا نبع من نبع صاف في بدايته وكان الوحي مصدره، ولكنه نتيجة جهل أتباعه والعداء الظالم لأعدائه انقلب بجميع أسسه إلى مجموعة من الخرافات والأوهام.

إذاً فإن معظم الأديان ذات المظاهر الباطلة والتي استمرت ووصلت إلى أيامنا الحالية كانت مستندة في الماضي إلى أسس متينة وصالحة وصافية في الأكثر. والظاهر أن كل عصر كان يحمل سمة وختم نبي من الأنبياء".

عدد الأنبياء

ويؤكد "غولن" أن أديانا كثيرة تعرضت إلى التحريف، ومن الضروري رغم ذلك قبول مبدأ "أن القسم الأكبر منها كان صافي المنبع"، ولكننا لا نعرف من الأنبياء الذين ظهروا في كل العالم والذين يبلغ عددهم حسب إحدى الروايات 124 ألف نبي، لا نعرف سوى 28 نبيا، ومع ذلك فنحن لا نعرف أماكن وأزمنة هؤلاء الأنبياء، ولا نملك معلومات كافية عنهم.

ولا يبين الداعية "غولن" للأسف، لماذا لم تتوافر الحماية الذاتية والرعاية الكافية لهذه الرسالات، من التشويه المتعمد والتحريف المصلحي الذي قام به البعض، رغم أنها كانت نور الهداية للبشر في التحليل الديني خلال بعض المراحل من التاريخ الاجتماعي البشري.

ويلاحظ من جانب آخر أن الأديان والعقائد لدى قبائل وشعوب أستراليا وإفريقيا والأميركتين، وكذلك أديان الهند وآسيا تختلف في كل التفاصيل تقريبا عن اليهودية والمسيحية والإسلام، مما يستبعد معه الاشتراك في أصل جامع، كالذي نراه في بعض المجموعات اللغوية السامية أو الجرمانية من جذور مشتركة وأفعال وأسماء.

ومن الثغرات الواضحة في الدراسات الدينية في الجامعات العربية والإسلامية وبخاصة كليات الشريعة والقانون وعلم الاجتماع، ضعف الاهتمام بما يسمى "علم الأديان المقارن"، وتوفير الحرية الأكاديمية للباحثين في هذا المجال.

ويستأنف "غولن" الحديث فيتساءل: ما مصير البشر الذين عاشوا في مراحل غموض الرسالات الدينية أو انقطاعها التي تسمى بمرحلة "الفترة"، ويقول: "هل يُعذب من لم ير نبيا؟ فالآية تقول "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً". (الإسراء 15)، إذاً فالإنذار أولا، والتكليف ثانيا، ثم العذاب أو الرحمة" (ص43).

ويقول غولن إن آراء الفقهاء غير متفقة في هذا الأمر: "إن أئمة المذاهب لهم آراء مختلفة في فروع هذا الأمر، فالإمام الماتريدي وأتباعه مثلا لا يرى أي عذر لأي شخص في عدم معرفة وجود الله، ولا سيما بعد آلاف البراهين والأدلة التي تشير إليه، والتي يزخر بها الكون، أما الأشعريون فيقولون بأن معنى وتفسير الآية: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" هو إشارة إلى أن استحقاق العذاب لا يكون إلا بعد التبليغ".

ويضيف الداعية: "وهناك من يوفق بين الرأيين فيقول إن كان هناك شخص لم ير أي نبي ولكنه لم يعبد صنما ولم يلحد بالله، فهو من أهل النجاة، ذلك لأن هناك كثيرا من الناس المحرومين من قابلية التحليل والتركيب الفكري، كما لا يستطيعون استنباط المعاني من سير الأمور والأحداث، لذا يجب أولا إرشاد أمثال هؤلاء، ثم نرى عما إذا كانوا يستحقون الثواب أو العقاب. ولكن إن كان هناك من اتخذ الكفر مهنة له ومسلكا، ويفلسف هذا الفكر، ويعلن الحرب، ضد الله فسيلقى جزاء إلحاده وكفره وإن كان في أقصى الأرض".

ويخلص "غولن" من هذا كله إلى القول: "إنه ما من بقعة أو بلد خلا من الأنبياء، وإنه ما كان هناك زمن (فترة) طويل خال من الأنبياء، فإنسان كل عهد أخذ نصيبه من النسيم العطر الذي أحدثه نبي من الأنبياء. أما في الأماكن التي نسي فيها اسم النبي وذكره وبهتت آثاره بفعل مرور الزمن وتأثيره فقد أطلق تعبير "الفترة" على هذه العهود حتى ظهور نبي آخر، وبأن إنسان مثل هذه العهود، أي عهود الفترة سيغفر لهم، ولكن بشرط ألا يكفر بالله ويلحد به عن سابق قصد وشعور، والله تعالى المحيط بعلمه بكل شيء هو أعلم بالصواب". (ص44).

غولن لا يستفيد من علم مقارنة الأديان

ولا نجد لدى "غولن"، رغم سعة جمهوره من المتعلمين والجامعيين ورجال الأعمال، أي محاولة للتعامل والاستفادة والتجديد، في ظل البحوث الواسعة وآلاف الكتب والدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية والدينية في تاريخ ظهور الجنس البشري الذي يمتد لأكثر من مليون سنة، وبين ظهور الدعوات والرسالات النبوية، حيث اجتازت القيم واللغات والعادات والتقاليد والتجمعات البشرية مئات القرون، قبل وصول الأديان والعقائد إلى ما هي عليه اليوم بين البشر. ونرى حتى بين الجماعات الإنجيلية الأميركية المعارضة بقوة لنظرية التطور والنشوء والارتقاء، ولبعض النظريات الاجتماعية المستندة إليها، توجها غير معقول لاعتبار أن الخليقة قد بدأت قبل ستة آلاف سنة، توالت بعدها العقائد والأديان، وهي بلا شك فترة قصيرة جدا تؤكد عدم كفايتها الآثار المصرية الفرعونية، التي يمتد تاريخها إلى أبعد من ذلك، دع عنك حضارة بلاد الرافدين وغيرها. فهذه فترة قصيرة جدا لا تفسر ما نرى من اختلافات سلالية ومظهرية ولغوية بين سكان العالم، بل بين سكان منطقة محدودة كالشرق الأوسط، مهد اليهودية والمسيحية والإسلام، وربما من نعرف عنهم شيئا من الأنبياء.

ويؤكد "غولن" في مكان آخر من كتابه تعارض الأحادث حول عدد الأنبياء فيقول: "لقد أرسل الأنبياء إلى جميع أرجاء الأرض لا نعرف عددهم بالضبط، ولكن هناك في كتب الحديث رواية أن عددهم كان 124 ألفا وفي رواية أخرى 224 ألفا، واستنادا إلى علم الحديث فإنه يمكن جرح جميع هذه الروايات، وسواء أكان عددهم 124 ألفا أو 224 ألفا فليس هذا هو المهم، المهم أن الله تعالى لم يدع عهداً أو أمة دون نبي".

(يتبع غداً)