جرت العادة أن يصاحب عرض أي فيلم سعودي جديد عبارة مأثورة تقول: "أول فيلم سعودي في السينما العربية"، وسرعان ما يتبين أن العبارة تحمل قدراً غير قليل من المبالغة والزيف، وأن الفيلم ليس سعودياً خالصاً، بل يقوم - في جانبه الرئيس - على جهود عناصر فنية أجنبية، كالتصوير أو المونتاج أو الموسيقى، وفي بعض الأحيان يعتمد على قصة كتبها أميركي أو بريطاني وجرى تعريبها، فضلا عن اعتماد الفيلم، الذي يقال إنه "سعودي"، على جهات إنتاجية غربية أو رؤوس أموال أجنبية!

من هنا يستحق فيلم "بركة يقابل بركة" (88 دقيقة) الكثير من الحفاوة، لكونه سعودياً من الألف إلى الياء، فالمخرج محمود صباغ العائد من رحلة دراسية في نيويورك قام خلالها بصناعة أفلام وثائقية، أخذ على عاتقه، وهو يصنع فيلمه الروائي الطويل الأول، أن يكون سعودي الهوى والتمويل والبشر والرؤية، وهو ما نجح فيه بشكل كبير، فالفيلم يتناول أزمة الجيل الجديد من السعوديين الطامحين إلى التغيير، ومجاراة العصر، من دون تجاوز أو تطاول، وإنما حب حقيقي يكنونه للوطن، ورغبة صادقة في وضعه ضمن مصاف الدول المتحضرة، وهو ما أكده بثقة، ووثقه بالصورة، عندما عقد مقارنة بين مؤسسات الثقافة قديماً والآن، وأشار إلى أن السعودية عرفت، في حقبة ما، السينما والمسرح والتلفزيون، ومعارض الفنون التشكيلية، وعروض الأزياء، كما عرفت مضيفات الطيران والتلميذات سافرات الوجه، ولم تحدث العواقب الوخيمة التي يخشاها البعض، ويحذر منها بوصفها الشر المستطير!

Ad

بروح المتمرد المحب، وليس الناقم المخرب، يضرب "صباغ" في أكثر من اتجاه، فمن خلال "بركة" (هشام فقيه) موظف بلدية جدة المتزمت ذي الأصول المتواضعة، الذي يحلم بحوريات الجنة، و"بيبي" (فاطمة البنوي) ابنة الطبقة الثرية، التي تخجل من اسمها الأصلي "بركة"، يعلن المخرج / المؤلف مقاومته لما أطلق عليه "قوى النسيان والتهميش"، ويقدم مقابلة بين عالمين، ويظهر تعاطفا مع جيل أجبرته الظروف على مواجهة مجتمع رجعي يغض الطرف عن التحرش، لكنه لا يتوقف عن سن التشريعات السياسية والاجتماعية المقيدة للحرية، والمعطلة للحياة، فالمواعدة بين الجنسين ممنوعة، وقيادة السيدات للسيارات محظورة، وظهور وجه المرأة مُحرم، وتمثيل النساء مكروه.

وللتغلب على هذه المحظورات، وغيرها، يضطر الشباب إلى التحايل على المجتمع، ومراوغة الشرطة الدينية، فالفتاة "بيبي" تلجأ إلى موقع التواصل الاجتماعي "أنستغرام" لتصنع منصتها التي تحرر أحلامها وأفكارها، وتطلق فيديوهاتها، وصورها التي تخفي وجهها، نزولا عند رغبة مجتمع مغلق يحرم ظهور وجه المرأة وجسدها، بوصفها "عورة"، بينما يضطر "بركة"، الذي يهوى التمثيل، إلى تجسيد شخصية "أوفيليا" في العرض المسرحي "هاملت"، للتحايل على تحريم مشاركة المرأة في التمثيل، ويسعى إلى الانفراد بفتاته في منتجع خارج عن السيطرة، وتنتابه الدهشة حيال مصادرة أجهزة الدولة للفودكا والـ "بلاك ليبل" لمجرد "الشو الإعلامي"، وفي إشارة ذات مغزى يثمن الفيلم دور الموسيقى، من خلال "دعاش"، الذي عرف بإتقان العزف على العود، قبل أن يهزمه المجتمع، والمزاج، وفي السياق نفسه يستعين "بركة" بتخت موسيقي ليحتفل بعيد ميلاد حبيبته، وكأنه يتحدى المجتمع!

سجل المخرج محمود صباغ امتنانه للسينما المصرية، عبر استعارته مشاهد "هنومة" في فيلم "باب الحديد"، ثم مروره العابر على الملصق الدعائي لفيلم "آيس كريم في جليم"، واللعب على معادلة "الحب من أول نظرة"، لكنه ذكرنا بالميلودراما الهندية عندما كشف أن "بيبي" ليست ابنة "ميادة" صاحبة بيت الأزياء، التي تغلبت أخيراً على مشكلة عدم الإنجاب، بل هي ابنة ملجأ الأيتام، وإن وظف هذه الجزئية التي بدت ساذجة، في إعادتها إلى صوابها، وتنويرها، بعد إصابتها بتعالي وعنجهية الأغنياء، وإن ظلت النهاية مفتوحة بين صاحبي أغرب اسمين جمعت الأقدار بينهما، ليتحديا عادات وتقاليد مجتمع طالته يد التشويه، ولم يسلم من وباء التزمت والانغلاق!

"بركة يقابل بركة"، فيلم هادئ في خطابه، عقلاني في تمرده، موضوعي في ثورته، وأزعم أن تقديمه بوصفه "كوميديا سعودية 100 في المئة" لم يكن منصفا، فمن الجائز أن يكون "كوميديا سوداء"، والأغلب أنه كوميديا ساخرة لا تخلو من طموح يمد جسور التواصل بين القديم الأصيل والجيل المعاصر، وهو - في كل الأحوال - فيلم عن السعودية التي لا نعرفها، بعيدا عن الصورة النمطية التي ألفناها، وجاء اختيار مدينة "جدة" كمكان للأحداث لتكريس صورة جديدة لمدينة "كوزموبوليتانية" مؤهلة للتعايش بين الطوائف، وتربة خصبة للحداثة، وأظهر المخرج / المؤلف براعة في اختيار الفكرة، ولغة السرد، والربط بين زواج والد "بركة" وحادث اقتحام الحرم المكي، بواسطة جهيمان العتيبي، بعد صلاة فجر 20 نوفمبر 1979، كما أثمر التعاون بينه ومدير التصوير المصري فيكتور كريدي عن صورة رائعة، وأدت ثقته بطاقم تمثيل يقف الغالبية منهم أمام الكاميرا لأول مرة، إلى نتيجة باهرة، بدليل تألق الممثل سامي حنفي، الذي جسد شخصية "دعاش"، وهو لا يقرأ ولا يكتب، ويعمل صائغ مجوهرات!