يثير مخرج فيلم «برد الشتا» بيتر ميمي ضجة هذه الأيام، في أعقاب إعلان إحدى كبريات شركات الإنتاج عن اختياره لإخراج مسلسل بعنوان «الأب الروحي» قيل إنه مأخوذ عن الفيلم العالمي The Godfather، ما دعا البعض للقول إنه {مغامر} فيما اتهمه آخرون بأنه {مجنون}!

في فيلم {برد الشتا}، الذي أهداه صاحبه إلى روح الفنان ممدوح مداح، واستوحى أحداثه من وقائع حقيقية، نكتشف أنه أُنجز قبل فيلم {الهرم الرابع}، الذي سلط الأنظار بقوة على بيتر ميمي، بعد تجارب متواضعة في {سبوبة} (2012)، {سعيد كلاكيت} (2014) و}حارة مزنوقة} (2015)، وأننا حيال فيلم إنساني لا يخلو من نقد اجتماعي وسياسي، حيث {يوسف} (رامز أمير)، الذي يغادر شقته في {ليلة ديسمبرية مطيرة} وصلت درجة الحرارة فيها إلى ست مئوية، ليواجه طوفاناً من الأحداث التي تزيل الغمامة عن عينيه، وتضعه على أول طريق الاستنارة، والاشتباك مع هموم المجتمع وقضايا الواقع اليومي!

Ad

تبدأ الأحداث بتعطل سيارته، واضطراره إلى السير على قدميه للوصول إلى أقرب تاكسي، وفي الطريق يلتقي {عم زكريا} (ضياء الميرغني) الذي يلقب نفسه بـ {نقيب العربجية}، ويسأله المساعدة في دفع {الكارو} الُمُثقل بالبضائع، ويوافق من باب الشفقة على الحمار الهزيل. يكافئه {النقيب} في المقابل بتوصيلة إلى الشارع الرئيس، ويفاجأ بالرجل، الذي وضح تأثير الإعلام عليه، وهو يُحدثه عن الحد الأعلى للأجور، والعملاء الذين يهددون مصلحة الوطن. وبانتقاله إلى {الميكروباص} يلتقي شرائح اجتماعية تبدو غريبة على وعيه، وثقافته، لكنه يتوقف بمزيد من الدهشة عند فتاة الليل (شمس)، التي تتحدث بجرأة، وصفاقة، وتشكو ضيق الحال، وقلة الرزق، وبسخرية لاذعة أصبحت سمة لحوار الفيلم تُعلن أن {المهنة ما بقيتش تجيب همها تقولش فلوسها حرام!}.

ينصرف تركيز {يوسف} عما يجري في السيارة، ويجذب انتباهه حادث مروري على الطريق، لكن المتابع لا يدري السر وراء هذا الاهتمام المُفرط من جانبه، إلى اللحظة التي يصل فيها {الميكروباص} إلى مستشفى القصر العيني، ونُدرك أنه طبيب امتياز ذهب ليتسلم عمله في يومه الأول، وفور وصوله يُعري ما يجري في المستشفيات الحكومية من انهيار وإهمال وقسوة. فالإمكانات غائبة أو فقيرة، والأطباء يتعاملون مع ذوي الحالات الخطرة بقلب ميت ودم بارد، والمُسعفون غرقوا في بحور الإدمان، وكرد فعل حيال ما يحدث ساد العنف وانتشرت البلطجة، وتحول أهالي المرضى إلى وحوش يرفضون الموت، وينتزعون الحياة بالقبضة المجردة أو بأيديهم المدججة بالسلاح!

فضائح صارخة، ومثالب مخزية، لا يعرف تفاصيلها الدقيقة سوى شخص تخرج في إحدى كليات الطب، مثلما حدث مع بيتر ميمي الذي تخرج في كلية طب جامعة القاهرة ثم حصل على دبلوم السينما، وكتب وأخرج فيلماً يكاد يكون {سيرة ذاتية}. فهو {يوسف}، الذي صُدم في أحلامه، وخذلته مثاليته، وإنسانيته، ووجد نفسه مُطالباً بأن يستبدل بقلبه العطوف آخر غليظاً، وبمشاعره المرهفة أخرى متبلدة، وهو الشاب المُقبل على الحياة الذي أفزعته النماذج الإنسانية التي لم تجد من يحنو عليها، كالفتاة الصعيدية {حياة} (إيمي طلبه)، التي تعاني الفشل الكلوي، ولا تجد مكاناً في حجرة العناية المركزة، وهي المعاناة التي تكررت عندما تغلب أهلها على فقرهم، ونقلوها إلى مستشفى خاص، والعجوز (إنعام سالوسة) التي تعاني عقوق الأبناء، الذين أودعوها قسم الحالات النفسية والعصبية، وتجاهلوا زيارتها، واستردادها، بعد شفائها، و{المليجي} (يوسف شعبان) عزيز القوم الذي ذل، وبعد أن كان كبير أعيان عين الصيرة استعصى عليه توفير كلفة الجراحة المُقدرة بـ 20 ألف جنيه، ولم يكن أمامه سوى الاستسلام للموت، وهو المصير الذي استبسل {يوسف} ليحمي {حياة} منه، فمن الموت عرف معنى الحياة، وأيقن أن تغيير الواقع أمر حتمي، وإن كان شبه ميؤوس منه!

في ليلة واحدة، أو ما يسمى {دراما اليوم الواحد}، وظّف {ميمي} عناصره، في ظل إمكانات إنتاجية متواضعة، لتوصيل رسالة تطفح بالمرارة، وسخرية لاذعة تقطر بالقسوة. فالموسيقي (إبراهيم شامل)، وسارينة عربة الإسعاف كثفا جرعة التوتر، والليلة حالكة السواد، والقمر المتسلل من وراء السحاب (كاميرا فادي سمير)، بالإضافة إلى الرعد والبرق والمطر، كرست الواقع السوداوي، والغضب السماوي، وأغنيتا {برد الشتا} و{ما لكش مكان} لخصتا القضية. بدوره، نجح المخرج في قيادة الوجوه الجديدة (أيمن بشاي في دور {نائب المستشفى} ومصطفى عباس في دور {العسكري فوزي} وشيريهان شاهين في دور {سماح})، واستخرج أفضل ما في جعبة رامز أمير ونضال نجم، الذي اشتهر بأنه {يمثل بفلوسه}. لكن المخرج كان قاسياً في حديثه عن انتهاك عذرية طبيب الامتياز، والإطالة في الصلاة (مونتاج محمد حناوي)، ومبالغاً في تفجير سيارة داخل فناء المستشفى، الذي اقتحمه البلطجية للإفراج عن قريب لهم، وكأنه يُسقط على ما جرى في ظل الانفلات الأمني الذي أعقب اندلاع ثورة يناير 2011!