عندما وقع الرئيس الأميركي بيل كلينتون قانون الرعاية الاجتماعية تعالت أصوات الغضب في أوساط اليسار وقدم بيتر أدلمان وهو مسؤول رفيع في الخدمات الصحية والإنسانية استقالته احتجاجاً على ذلك، كما كتب مقالة نشرتها مجلة "أتلانتك" وصف فيها ذلك التوقيع بأنه "أسوأ ما فعله بيل كلينتون وأن ذلك القانون سيلحق الضرر بملايين الأطفال عندما يتم تنفيذه بشكل كامل"، وكان ذلك أحد ألطف الردود على خطوة الرئيس الأميركي.وكان انتقاد السيناتور دانييل باتريك موينهان أشد حدة حيث قال: "بعد ستين عاماً على السياسة الاجتماعية تجسد الخداع السياسي في تعبير إصلاح الرعاية، وسينضم ملايين الأطفال الى صفوف المشردين الساعين إلى قدر من الدفء وهم ينامون في شوارع مدننا، وقد استسلموا لإرادة أولئك الذين لا يبالون بما سبق أن دعوا إليه".
ومع اقتراب حقبة الـ2000 بدأت لهجة بعض النقاد بالتحول إلى الاعتدال، ومستويات الفقر لم ترتفع إلى الحد الذي توقعه المتشائمون، كما أن البرامج الأخرى، مثل ائتمان ضريبة الدخل المكتسب، ازدادت للتعويض عن هبوط الدخل الذي نجم عن المساعدة المؤقتة إلى العائلات المحتاجة، حتى في حدة الركود الكبير لم يكن خط الفقر قد تجاوز الذروة التي بلغها في سنة 1992، ولذلك كان من الصعب المجادلة في أن إصلاح الرعاية الاجتماعية قد ضاعف بشكل دراماتيكي من الظروف المادية التي كان الفقراء يعيشون فيها.كان ذلك صعباً، لكنه ليس مستحيلاً، وكانت المعدلات المتوسطة تخفي العديد من التباينات، كما أن الكثيرين في صفوف اليسار شعروا بقلق من أن الفقر كان يجعل الفقراء أحسن حالاً، لكنه قد ألحق الضرر بالشريحة الأشد فقراً بينهم، كالناس الذين يعانون أمراضا عقلية ومشاكل الحصول على المواد الأساسية، إضافة إلى القضايا الأخرى التي جعلت من الصعب بالنسبة إليهم الحصول على فرصة عمل، ولدى العديد من هؤلاء الأشخاص أطفال ومسؤوليات.وكان هذا على وجه التقريب ما أظهره جيسون دو بارل في كتابه بعنوان "الحلم الأميركي" الذي أعقب حصول ثلاث أمهات على الرعاية من خلال عملية الإصلاح:تمكنت امرأتان من تحسين ظروفهما بطريقة ما ولكن الثالثة تعرضت للإدمان على المخدرات، وغدت في حال أسوأ مما لو أنها كانت تتسلم شيكات من الحكومة. وكان ذلك أيضاً ما أشار إليه كتاب "دولاران في اليوم – العيش على لا شيء تقريباً في أميركا" الذي صدر أخيراً للكاتبة كاثرين أيدن وأتش ليوك شافر والذي اجتذب الكثير من الاهتمام لسرده روايات عن أشخاص يتلقون ما يبدو مبلغاً يستحيل العيش به.ومع خوض هيلاري كلينتون معركة الرئاسة الأميركية حظيت قضية نجاح الرعاية الاجتماعية بالكثير من الاهتمام السياسي.
الجناح التقدمي
حتى مع قلق الجناح التقدمي المحق من أن الشريحة الأكثر فقراً بين الفقراء ازدادت حالتها سوءاً نتيجة قانون إصلاح الرعاية الاجتماعية فإن ذلك لا يحل المشكلة. وتعرض حياة العمل فوائد متراكمة: أنت تحصل على عادات عمل جيدة وخبرة تمكنك من كسب المزيد من المال في المستقبل وتعودك على الاعتماد على النفس، وتقدم مثلاً صالحاً لأطفالك. وتشير تجربة الرعاية الاجتماعية الى أنها تمكن الناس من اتخاذ قرارات منطقية في الأجل القصير، وفوائد الرعاية أفضل من العمل على مستوى البداية الذي كان مدمراً كقرار في الأجل الطويل لأنه كلما طالت فترة وجودك من دون عمل أصبح من الصعب وضع قدمك على سلم المهنة، كما تقل فرص تمتعك بفوائد تراكمية. وربما لم تكن سياسة الحكومة التي تساعد الناس على اتخاذ قرارات سيئة في الأجل الطويل "الأفضل لعدد أكبر" من المواطنين، ومن جهة أخرى فإن جعل الأشخاص من ذوي الأوضاع السيئة في أحوال أشد سوءاً لا تبدو مثل سياسة جيدة أيضاً، ثم إن السياسة التي تظن أنها أكثر أهمية هي التقييم السليم من حيث القيمة وليست مسألة تجريبية.ولكن ماذا لو أننا لا نملك الخيار؟ لقد نشر أخيراً سكوت وينشيب من معهد مانهاتن دراسة تقول إن "الأطفال أقل احتمالاً أن يصبحوا فقراء اليوم مما كانوا قبل قانون إصلاح الرعاية الاجتماعية".مشكلة معروفة
تلك مشكلة معروفة وقياس معدل التضخم الذي يستخدم لحساب خط الفقر يشوبه الخلل بطريقة تفضي إلى رفع تقديرات الفقر، والناس لا يفصحون عن دخلهم لمستطلعي الآراء، وهي مشكلة ازدادت سوءاً في السنوات الأخيرة، ثم إن التغييرات الاجتماعية أثرت أيضاً في موثوقية هذا المقياس: وعلى سبيل المثال فإن المزيد من الناس يختارون المصادقة بدلاً من الزواج، ولكن مكتب الإحصاء يحسب أن الشخصين غير المتزوجين ويعيشان معاً على أنهما يقيمان في منزلين منفصلين، وقد ازدادت المعونات غير النقدية بصورة كبيرة وسمحت للعائلات الفقيرة بمزيد من الإنفاق، ومعدلات الفقر في الولايات المتحدة يتم احتسابها وكأننا لا نزال نعيش في حقبة الستينيات من القرن الماضي.والسؤال طبعاً هو كيف يتعين علينا القيام بعملية الحساب؟ والشيء الوحيد الذي يمكن قوله بالنسبة الى الإجراء الرسمي هو أنه لم يتغير منذ زمن طويل، ومن شأن ذلك أن يجعل من السهل مقارنة الفترات الماضية مع عدم الاختلاف حول الأرقام المستخدمة. ولكن وينشيب قد يكون أقل نجاحاً في إقناع الليبراليين بأن مقياسه هو الصحيح، ثم إن الجداول التي يطرحها توفر مجموعة من الطرق من أجل حساب معدلات الفقر، وفي حين تعتبر هذه الطرق مفيدة بصورة استثنائية لصناع السياسة فإنها تبرز أيضاً حقيقة أنه لا توجد طريقة واحدة للنظر الى مسألة الفقر.وعلى سبيل المثال هل يتعين علينا أن نعامل الأصدقاء الذين يقيمون معاً على أساس أنهم من شريحة المتزوجين؟ صحيح أن هذه الفئة تخفض النفقات لكن دخل الشخصين قد لا يكون متوافراً بالنسبة الى بقية أفراد العائلة بالطريقة التي نتوقعها في حالة الأبوين المتزوجين. وهل يتعين علينا احتساب مساعدات الرعاية الصحية؟ وقد تحرر المساعدة الصحية الناس من بعض الإنفاق، وهو ما يعني وجود مزيد من المال لإنفاقه على أشياء أخرى ولكن السؤال هو: كم تلك المبالغ؟وقبل أن نصل الى هذه الأسئلة يتعين علينا التطرق إلى السؤال الأكثر أهمية: ماذا يعني أن تكون فقيراً؟ وهو سؤال تصعب الإجابة عنه إلى حد كبير، ومعظم الفقراء في الولايات المتحدة حتى أولئك الذين يعيشون في فقر مدقع لا يعانون الجوع ولا يتجمدون حتى الموت ولا يضطرون للسير من دون أحذية أو ثياب أو التعرض للموت بسبب أمراض يمكن معالجتها. وتتمثل إحدى المشكلات في أننا نتحدث في غالب الأحيان عن "فقر نسبي"، وهو ما يقول الخبراء إنه يعني حياة المرء بدخل يقل عن نصف متوسط الدخل في مجتمعه، ولكن الفكرة ليست جديدة على أي حال.وأخيراً لا بد من القول إنه لا توجد إجابات بسيطة لهذه الأسئلة كلها، ولكن قبل أن نتحدث عن مقياس أفضل للفقر يتعين علينا في المقام الأول تحديد معيار لما نطلق عليه اسم الفقر، وقد ننتهي الى مقاييس متعددة تصف أشياء مختلفة، وربما يكون ذلك أكثر فائدة من وجود مجرد مقياس واحد لهذه الظاهرة.