قصيدة «في طبيعة الأشياء» (1 - 4)

نشر في 04-09-2016
آخر تحديث 04-09-2016 | 00:00
 فوزي كريم حين كتب الروماني تيتوس لوكريتيوس Titus Lucretius (99 - 55 قبل الميلاد) قصيدته المطوّلة "في طبيعة الأشياء" De Rerum Natura، كان شاعراً بالدرجة الأولى، لا فيلسوفاً. لأن الفلسفة التي عبَّر عنها باللغة الشعرية، كانت فلسفة شاعرة في جوهرها. شغلها قدرُ الإنسان ومصيره، وسبل خلاصه من ربقة الألم. وهي تحمل بذرة هذه الرؤيا التي صرنا نقرأها في نصوص شعراء عديدين، من بينهم المعري وعمر الخيام ورومي. وفي الأفق الفلسفي نقرأها في فلسفة شوبنهاور، الذي جاء فيما بعد. وهذه الأخيرة كانت مصدر وحي لشعراء وموسيقيين على حد سواء.

"يوم تحين نهاية العالم، عندئذ فقط سيزول معه الشعر السامي للوكريتيوس"... هذا ما كتبه الشاعر الروماني أوﭭيد، وهو ينتمي للجيل الذي جاء بعد موت لوكريتيوس مباشرة. إن شاعر قصيدة "في طبيعة الأشياء" يحتل مكانة في الأدب العالمي، كأحد الشعراء - الفلاسفة العظام.

التواريخ التي تم تعيينها لولادته وموته تستند أساساً إلى ملاحظات قصيرة في وقائع جمعها القديس "جيروم" في القرن الرابع الميلادي، حيث وضع ولادة لوكريتيوس في 94/93 ق. م ووفاته في السنة الرابعة والأربعين.

ولجيروم مقترحان آخران حول حياة لوكريتيوس: أولاً، انه أصيب بالجنون بفعل جرعة من إكسير حب، وكان يكتب قصيدته في الفترات التي يتضح فيها وعيه، حتى انتحر في النهاية، والثانية أن شيشرون، الفيلسوف الروماني المعروف، نقح أو أعاد كتابة القصيدة بعد موت لوكريتيوس. وفرضية انتحار لوكريتيوس لها ما يبررها، بسبب بعض الإشارات في القصيدة حول المرض والانحلال، التي كانت في أحيان كثيرة تُفسر كدليل على مشاعر يأس لدى المؤلف.

القصيدة تعبير شعري عن "الفلسفة الأبيقورية"، التي تهدف إلى السعي العملي لتحقيق الحياة السعيدة. المسعى الأبيقوري الأمثلُ للعيش يكمن في تحرر الكائن الإنساني من الاضطراب والقلق، والطريقُ إليه يمكن أن يُحقَّق في العزلة عن الحياة العامة، وكل ما يجعل الألمَ ذا سطوة على الرغبة بالسعادة. وكذلك في الدراسة، والتأمل في حقل الفلسفة، حيث يتعهد أحدُنا بدراسة الطبيعة، والكائن الإنساني، والكون، لا برغبة موضوعية خالصة للعلم، ولكن لجعل هذه الدراسة وسيلةً لإنجاز التحرر الشخصي التام من التشوش والاضطراب.

يكتب الفيلسوف الأميركي سانتيانا في كتابه "ثلاثة شعراء فلاسفة" بأن أبيقور كان، على خلاف التشويه الشائع لسمعته من أعدائه بأنه منغمس في ملذاته، قديساً. أثينا زمانِه تحتفظ بكل بهائها وسط انحطاطها السياسي، ولكن لا شيء هناك يثير اهتمام أبيقور. المسارح، الشرفات، المنتديات الرياضية، تعبق بالتفاهة والحماقة. انسحب إلى حديقته الخاصة، مع حفنة من أصدقائه ومريديه، باحثاً عن سبل للسلام، يعيش باعتدال، ويتحدث بلطف، يعطي الصدقات للفقراء، ويبشر ضد الثروة، ضد الطموح، ضد العاطفة، ويدافع عن الإرادة الحرة. أنكر الخوارق، لأن الإيمان بها ذو تأثير مقلق على العقل، ويجعل أشياءً كثيرة إلزامية. ما من حياة مستقبلية: فنُّ الحياة الحكيمة يجب ألا يشوَّه بفعل تخيلات واهمة.

كل شيء حدث وفق ما هو طبيعي، الالهة بعيدة جداً، معزولة شأن الأبيقوريين. زيارةُ معابدهم مُسرّةٌ. تماثيلهم، حينما يحدق فيها الإنسان التعيس، تذكره بالسعادة، كان أبيقور مفطوماً من هذه الفتنة التي لا معنى لها للشؤون البشرية. عاد الفيلسوف إلى حديقته معززاً بالحكمة، سعيداً في عزلته، أكثر ودية وأكثر لا مبالاة بكل العالم. لذلك، فإن حياة أبيقور، كما يشهد القديس جيروم، كانت "مليئة بالأعشاب، والفواكه، ومتقشفة". ثمة صمت فيها، يبدو كفجيعة. فلسفته كانت فلسفة نفي، وهرب من العالم.

أبيقور يرى أن كل الأشياء تكونت من الذرات. وروحُ الإنسان ضمناً، فهي لذلك زائلة بزوال الجسد. والهدف الواضح من هذه التعاليم، مع التنبيه على ضرورة العزلة وتجنب الحياة العامة وتوفير الحد المعتدل من المتعة، هو التغلب على كل قلق يتعلق بحياة الانسان، وكل خوف يسببه التفكير بالموت، وبما يُخفي الغيب. لا غرابة إذن من أن نرى، عبر التاريخ الذي جاء بعد أبيقور، أن كلاً من المؤسسة السياسية الرومانية، والكنيسة المسيحية كانت ترى في الأبيقورية تهديدا خطيرا.

back to top