كان من بين ما تناولته في مقالي الأحد الماضي على هذه الصفحة تحت عنوان "المثلثات الثلاثة في مصر" مثلث نوبل الذي حصدته مصر بأضلاعه الثلاثة، بحصول السادات على جائزة نوبل للسلام والتآخي بين الأمم والشعوب، وبحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأعمال الأدبية المثالية المتميزة، وبحصول زويل على جائزة نوبل في العلوم والكيمياء والفيزياء والطب، لتكتمل بذلك لمصر الزوايا الثلاث لمثلث نوبل.

Ad

مصر ونوبل منذ فجر التاريخ

وقد تكون بعض الدول قد حصلت مثل مصر على جوائز نوبل التي تمثل زواياه الثلاث، إلا أن مصر تظل تتميز عن هذه الدول بأنها وحدها دون غيرها التي حصلت على أول جائزه لنوبل في أول القرن العشرين، عندما منحت مصر أول جائزة من جوائز نوبل في عام 1901، من خلال الميدالية الذهبية التي تمنح للفائزين بهذه الجائزة، والتي تعترف مؤسسة نوبل في تصميمها بفضل مصر على الإنسانية كلها في الحضارة والعلوم. فجاء تصميم الميدالية وعلى أحد وجهيها صورة لنوبل وعلى الوجه الآخر آلهتان من آلهة الفراعنة، آيزيس بوجهها الجاد وملامحها الصارمة وهي تمسك في يدها بوعاء قرني الشكل (رمز الوفرة والخصب والنماء في مصر القديمة) وهي تتشح بحجاب يرمز إلى ما تخفيه الطبيعة من درر وكنوز، قابلة على الدوام للاكتشافات العلمية، وإلى يسار آيزيس آلهة فرعونية أخرى ترمز إلى روح العلم لدى المصريين القدماء، وهي تمسك بيدها اليمنى قرطاسا من ورق البردي، وعلى رأسها تاج أو إكليل غار يرمزان إلى المحارب المنتصر على عدوه.

بل لا أكون مغاليا إذا قلت: إن مصر تمنح هذه الجائزة كل عام مع كل فائز يمنح ميداليتها الذهبية.

وفي مناسبة منح جائزة نوبل للسلام إلى الرئيس الراحل أنور السادات وبيغن في عام 1978 اعترفت نوبل بفضل مصر على الحضارة عندما أعلن أسي ليونير رئيس لجنة الجائزة أنه في هذا الجزء من العالم كان مولد حضارتنا ومهدها منذ أكثر من ستة آلاف عام مضت، وفي هذا المكان تكونت أيضا مجتمعات حضارية ذات ثقافة عالية المستوى والتي كان لها آثار بالغة العمق في تنمية المجتمع البشري وتطويره في أماكن أخرى من العالم.

مصر دونت تاريخ البشرية

ولا غرو في ذلك فمصر دونت تاريخ البشرية باختراعها الكتابة في أول نقش نقشه الإنسان على الحجر أو في أوراق البردي، فأصبح ما قبل ذلك عصور ما قبل التاريخ، ولا يعرف الإنسان على سطح الكرة الأرضية أثراً باقيا على الزمن أقدم من هرم زوسر والمصاطب التي سبقت بناءه، وإن أكثر التقديرات تواضعا لبدء الحضارة في مصر القديمة ترجع إلى منتصف الألف السادسة قبل الميلاد (الدكتور عبدالعزيز صالح – حضارة مصر ص 78).

مصر أول دولة في تاريخ الحضارة

فمصر اختلفت عن سائر المجتمعات القديمة في أنها أولها التي توحدت في ظل دولة مركزية، حيث تدار أمورها من عاصمة تخضع لها سائر المدن والمناطق، في الوقت الذي ظلت فيه هذه المجتمعات حتى العصور الوسطى عند دائرة المدن لا تعدوها، فتؤلف كل مدينة وحدة سياسية لها جيشها واستقلالها. (موسوعة تاريخ مصر- الجزء الأول- أحمد حسين ص8).

ديانة التوحيد في مصر

والمصريون القدماء هم أول من وصل إلى إله واحد هو أمون، وإلى جوهر الأديان السماوية كلها قبل نزول الرسالات السماوية، وأن الموت معبر الإنسان إلى الحياة الأخرى حيث البعث والثواب والعقاب، والجنة والنار، وهو ما أثبتته النقوش على الأهرامات التي دفن فيها فراعنة مصر، وعلى غيرها من مقابر وآثار.

وأثبتت النقوش على الحجارة ما كان الحاكم يقدمه إلى الإله من حساب، وفي هذا السياق فقد كتب حاكم مقاطعة جبل الحية القرناء على القبر الذي دفن فيه بعد ذلك: "لقد كنت أعطي الخبز لكل جائع، وكسوت من كان عاريا، وما ظلمت أحدا حتى شكا إلى الإله، فقد كنت أنطق بما هو خير، ولم يكن هنالك شخص يستولي عليه الخوف بسبب شخص أقوى منه ليشكو إلى الإله". (المرجع: تطور الفكر الديني في مصر القديمة- برستيد ص 142).

زويل والأهرامات والزمن

وأستميح صحيفة الأهرام المصرية عذرا، إذا استخدمت التعبير الذي استخدمته وهي تسرد سيرة محمد حسنين هيكل على الصحافة والإعلام، عندما لقبته بالهرم الرابع، ولا أختلف معها في أنه قد يكون أعظم كاتب صحافي، وأعظم محلل سياسي وإخباري في مصر بل في الشرق الأوسط كله، وأنه استطاع أن يقفز بالأهرام قفزات غير مسبوقة لكي تتبوأ مكانتها الكبيرة التي تحتلها في مصر وبين كبريات الصحف الإقليمية بل العالمية، ولكن في تعامل الصحيفة مع الحدثين وفاة هيكل ووفاة زويل، فإنها أعطت هيكل كل ما يستحقه، وكان سردها لسيرة زويل أقل كثيرا مما يستحقه، وكان بعض ما يستحقه أنه الهرم الرابع الذي تحدى الزمن مثلما تحدته الأهرامات الثلاثة، فهزمه كما هزمته.

وفي هذا السياق يقول دورانت في قصة الحضارة (ص 72): إن العالم كله يرهب الزمن، ولكن الزمن ذاته يرهب الأهرامات، فبناء الأهرامات في هذا الزمن السحيق، بهذه الدقة المتناهية في البراعة والإتقان، التي يعجز عنها أعظم المهندسين دقة في العصر الحديث، وقد تطلب الهرم الأكبر لبنائه مليونين وثلاثمة ألف حجر، متوسط ثقل الحجر الواحد 2.5 طن، وتبلغ زنة بعض الأحجار من 20 طناً إلى 150 طناً، والجزء الأكبر قطع من جبل المقطم، والآخر جلب من أسوان، وإن شعبا بنى هذه الأهرامات لهو شعب يملك القوة والقدرة على أن يعيد كتابة التاريخ مرة أخرى بأحرف من نور.

فقد توافرت لديه العزيمة على تحدي الزمن، فجاء أحمد زويل من رحم هذه الأمة، ليتحدى الزمن مرة أخرى، كما تحداه أجداده الفراعنة.

فضلا عن الإبداعات الهندسية التي تمثلها منارة الإسكندرية القديمة، وهي الثانية من عجائب العالم القديم السبع المشهورة.

زويل يرد الفضل إلى مصر

في كلمته التي ألقاها أمام ملك السويد وضيوف الأكاديمية السويدية من ساسة وعلماء قال: "لو كانت جائزة نوبل قد ظهرت إلى الوجود منذ ستة آلاف سنة مضت، حينما بزغت شمس الحضارة المصرية القديمة أو حتى منذ ألفي سنة بعدما أنشئت مكتبة الإسكندرية المشهورة لكانت مصر قد حصدت العديد من جوائز نوبل في كل حقول العلم".

ويرد زويل في رحلته عبر الزمن الفضل إلى مصر، مستشهدا في ذلك بأقوال مؤرخي الغرب وعلمائه، فيقول عن مصر، إنه في قراءاته للكتب والنشرات العلمية التي تنشر في الغرب اكتشف أن كل موضوع جاد في هذه الكتب والنشرات عن الضوء والزمن والمادة والكيمياء والورق واللغة والفنون والأديان، يؤكد أن مصر كانت تذكر على أنها أول من أضاف إلى هذه المعارف أو كانت ضمن الأوائل الذين أضافوا إلى المعارف الإنسانية في هذه الموضوعات.

ويرد زويل على سؤال طرحه عليه الصحافيون في الغرب: كيف تسنى له أن يتبوأ هذه المكانة العلمية الرفيعة، وقد نشـأ في بيئة علمية غير مؤهلة لتحقيق كل هذه الإنجازات العلمية الخارقة؟ بالقول: "لقد نشأت في مصر موطني الأصلي والتي شكلت حياتي المبكرة وغرست في نفسي الفخر بإنجازات أجدادي العظيمة، وكانت أرض مصر مولدي، وهي واحدة من المواقع الأولى في التاريخ التي نشأت فيها الحضارة وتشبعت الأجيال المتعاقبة بالروح الحضارية والقدرة على إحراز الإنجازات والمعرفة".

وظل زويل متألقاً متقائلاً في رحلته عبر الزمن ليقول إن مصر سيأتي عليها اليوم الذي تعيد فيه أمجادها حتى لقي ربه راضيا مرضيا.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.