ليس اختراعا للبارود أن يقال إن الحياة في بعض محطاتها تضعنا وجها لوجه إزاء اختيارات أخلاقية تتسم بالقسوة والصعوبة، هكذا تتنازع المرء الرغبة في الوفاء للقيم والمثل المطلقة أو اتباع صوت المشاعر والعاطفة، مثلما هو الأمر مع المأزق الأخلاقي الشهير حول تسليم المرء لأخيه إلى العدالة في حال خرقه للقانون أو التستر عليه، بهذا المعنى تشكل الأخلاق، وعلى نحو صميمي، حياة الإنسان بطرق قد يجهلها هو نفسه.

ولكن في العمق يتبدى موضوع الاختيار الأخلاقي معقدا بعض الشيء، وعلى الضد من الحكمة الشائعة لا يمكن تعلم الكثير منه عبر التجربة، ذاك أن الاستخدام الدارج للقواعد الأخلاقية في المجتمع يلوذ غالبا بمبدأ المفاضلة أكثر من اتصاله بمبادئ أخرى كالخير العام وسواها، وبناء عليه يتم استبعاد خيارات معينة من تفكير المرء وقبول أخرى، وهذه بالضبط المشكلة الأولى في المسلكيات الاجتماعية التي عصفت ببيئتنا المحلية مؤخرا، فالكثير من الأفراد على سبيل الإحاطة، لن يقدموا على كشف تراخي زميل في أداء عمله وتهاونه ما لم يكن مصدر تهديد لارتقائهم المهني أو يشكل عقبة أمام مصالحهم، كذلك يسوغ البعض تحصيل مبالغ ومزايا من المال دون وجه حق عن طريق استغلال الوظيفة بالاعتقاد أن النظام العام يكافئ المتراخي والمجتهد دون تمييز، وفي هاتين الحالتين لا يتعلق الأمر بالمفاضلة بين الإيجابيات والسلبيات في السلوك والفعل بقدر ما هو ضرب من الإيمان الفردي بطريقة محددة للحياة، تزدري بوضوح لا يمارى فيه الثوابت الأخلاقية.

Ad

وحين يتبنى الفرد هذا النوع من طريقة العيش ستتلون به حتما كل مستويات حياته الاجتماعية والسياسية والفكرية والعاطفية، ويتضح هذا الأمر أشد ما يتضح به في دقائق حياته الخاصة وفي علاقته بالآخرين، وحسبنا تدبر عقابيل سلوك كهذا على اللوحة الاجتماعية الكبيرة، ولعل أشدها خطرا اضمحلال التفكير العقلاني والمنزه عن أية أنانية ضيقة، ونمو التعصب الجماعي الذي تمارسه الجماعة في قراراتها الجمعية والتعصب الفردي الذي يتجه نحو المصلحة الشخصية.

إن الفرد حينما تصيبه لوثة التعصب فإنه يمارس التسلط على مستوى الرأي والسلوك، ومن هنا تحديدا تبرز أهمية اعتماد المبادئ الأخلاقية العقلانية ركائز للسلوك الاجتماعي، فالفرد عندما يكتسب الشعور والقناعة بأن شخصيته يجب أن تتمايز بشكل أو بآخر عن سلوك الجماعة المحيطة به، فإنه يطهر نفسه تلقائيا من المحاكاة الغريزية لكل ما تقوم به الجماعة، ومن ثم يتعامل مع الآراء في شؤون الحياة انطلاقا من إدراكه لها وكيفية تمسكه بها في علاقته مع الآخرين، وبدلا من أن تفكر الجماعة فيه أو بواسطته يفكر هو في أموره الخاصة وفي الجماعة، على نمط معين وفي اتجاه معين أيضاً.