إما وإما
في مقال لجاستن غنغلر بنشرة مركز كارنيجي للشرق الأوسط، بعنوان "الاقتصاد السياسي للطائفية في الخليج"، كتب أن حكام المنطقة يواجهون "حوافز تدفعهم إلى تطوير مصادر غير اقتصادية للشرعية، بهدف الحفاظ على الدعم الشعبي مع زيادة الإيرادات الشحيحة من الموارد، ومن خلال زرع بذور الريبة المجتمعية. وتسليط الضوء على التهديدات، والتأكيد على قدرتها على ضمان الأمن، يمكن للأنظمة تعزيز التأييد المحلي والحد من الضغوط بتكلفة أقل من توزيع إعانات الرعاية الاجتماعية..."، ويضيف الكاتب في نهاية الفقرة "... إن في وسع الحكومات إرغام السكان على القبول بالجمود السياسي، حتى في الوقت الذي تتضاءل فيه الفوائد الاقتصادية التي يحصل عليها المواطنون". يهمني حصر الكلام وإسقاطه على حالتنا الكويتية تحديداً، كي أتجنب الملاحقة القانونية عن "الإساءة لدول صديقة" حسب قوانين الغم السارية.ببساطة تريد الدولة بعد تهاوي ثمن بضاعتها الوحيدة مصدراً آخر لشرعية القبول من الناس المحكومين غير دبلوماسية الدينار التي تعتمد على شراء الولاءات السياسية بالمنح والتوزيعات المادية، مثل خلق كوادر مالية مكلفة، أو توزيع عطايا مرهقة للميزانية على الناس لأي مناسبة، وضمان وظيفي... إلى آخره. فتكلفة الشراء وسياسة الاسترضاءات المادية أمام واقع انسداد الشرعية الدستورية بعد فرض مرسوم الصوت الواحد أصبحت الآن عبئاً لا يمكن أن تستمر به الدولة، فعندها لابد من إحلال وهم "جاءكم الذئب"، وعليكم أن تحمدوا ربكم على نعمة الأمن والأمان التي توفرها السلطة، وعلى الناس حسب الرسالة الحكومية واجب التأمل في أحوال الدول العربية الأخرى التي عصف بها الربيع العربي حين تحركت شعوبها تطالب بالحرية والكرامة، فانتهت إلى الحالة المزرية المرعبة... طبعاً لا يأتي هنا أي ذكر لدور دبلوماسية "بترودولار" في انقلابات الثورة المضادة.
ضرب المظاهرات السلمية في السابق، وملاحقة حالات ازدواج الجنسية، وكأن ازدواج الجنسية مسألة جديدة، وتشريع قوانين قمعية غير دستورية تصادر الحريات وتعاقب الناشطين السياسيين، ولو كان ذلك بأثر رجعي، مثل قانون اجتثاث المعارضة الأخير، بحرمان رموزها من الترشح والانتخاب، وقانون البصمة الوراثية. كل ذلك يتم باسم القانون وعبر المؤسسة التشريعية الشكلية.بأيام سعر البرميل المتجاوز للمئة دولار كان يمكن للسلطة أن تفعل ما سبق، وكان بالإمكان ضمان الصمت الشعبي كالعادة المتأصلة بها، عبر حكمة الرشا السياسية، أما الآن فأصبحت الرشوة التاريخية مكلفة، عندها يصبح النفخ على جمر الأخطار الخارجية التي تملي عقد صفقات أسلحة بمبالغ رهيبة، أو تحريك هواجس القلق من الخطر الداخلي الذي تمثله فئات معينة من الشعب، كل ذلك يصبح أمراً مقبولاً عند شرائح عريضة من الطبقة الوسطى القلقة، التي تجد نفسها ملزمة على الصمت وتقبل "الجمود السياسي" القاتل الذي نلمسه لمس اليد هذه الأيام، من أجل قضية الأمن والأمان "وامسك مجنونك، كي لا يأتي الأجن منه".رفع سعر البنزين يصبح أمراً مقبولاً الآن، فأثره يظل محدوداً تقريباً في النهاية، لكن في المستقبل القريب، سنجد أنفسنا أمام واقع رفع كل الدعوم، مثل الكهرباء والماء والمواد الغذائية، وأيضاً ستجد الدولة نفسها أمام عجز متنام في الباب الأول من الميزانية، ولن يمكن الاقتراض الداخلي أو الخارجي، فهناك حدود لهما لا يمكن تجاوزها، عندها ماذا يمكن للسلطة أن تفعل أمام خطر الانفجار الداخلي؟ هل ستظل تسير على السياسة الحالية التي تحدث عنها جاستن بمعنى ممارسة المزيد من القمع؟ وإذا فعلت ماذا ستكون ردود الفعل الشعبية؟ وهل ستظل سياسة "جاكم الذيب" وما تعنيه من قمع أشد مجدية والدولة في مواجهة ظروف مخيفة لم تعمل لها السلطة أي حساب في السابق؟ أم قد تفكر في الانفتاح والشفافية ومصارحة الناس بواقعهم ودعوتهم للمشاركة بالحلول...؟! ماذا ستصنع السلطة في الغد، وهو غد قريب، إما وإما... فماذا ستختار؟! مراجعة التاريخ مجدية لمن يقرأ ويتعظ.