لعل أكثر ما يميز الانتخابات الرئاسية الأميركية هذه هو دور الطبقة العاملة المهمشة التي تعاني البطالة وشح الرواتب وتثور ضد «المؤسسات»، وتظهر استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة أن مؤيدي «مؤسس» هذه «الدراما» دونالد ترامب ليسوا في الواقع من الفلاحين الفقراء الكادحين المتمردين، بل إن دخلهم الأسري يتخطى عتبة متوسط الدخل القومي، لكن هذا لا يعني أن من يناضل لكسب القوت ليس لديه ما يقلقه بشأن المستقبل، ولذلك يستحق هؤلاء منافسة رئاسية فعلية بين مرشحين يتناولان المشاكل التي تقض مضجعهم بجدية، ناهيك عن المشاكل التي تعصف بالعالم.

بعد عقد من الرخاء الفعلي والازدهار في الاتحادات النقابية ونشاطاتها وزيادة ملحوظة في التشريعات المتطورة المتعلقة بالعمل وسوقه، تراجع المشهد النقابي ككل في الولايات المتحدة، فقد خفّ دور الاتحادات النقابية وقُلّص، كما أن الميثاق الاجتماعي- الذي قدمت وفقه الشركات الكبرى الرواتب الجيدة والميزات الكثيرة لقاء العمل المخلص والموثوق به- تآكل بفعل التطور التكنولوجي الكاسح والمنافسة الدولية الشرسة، ويقول موقع الاستراتيجيات العالمية حول العمال بشأن هذا الموضوع: «اتحاد النقابات اليوم في أميركا هو نتاج الفترة التاريخية التي كانت فيها الأسواق والدول مترابطة إلى حد بعيد. أما اليوم فإن الرساميل العالمية تتخطى الحركات النقابية العمالية الوطنية بكل سهولة».

Ad

قبل مئة عام واجه العمال الأميركيون القلق نفسه، فقد أحدثت التطورات الصناعية ثورة في التحديث وحققت الازدهار لكثيرين، ولكن ترافق هذا الازدهار مع استياء كبير بين من يعملون في صناعة المنتجات وفي قطاع الخدمات الذي كان يعاني كثيراً بما أن العمال اليدويين الماهرين والمتخصصين استبدلوا بالآليات، كما حصل مثلاً مع شركة «فورد» لصناعة السيارات.

وترافقت هذه التغييرات مع أزمة اجتماعية واسعة النطاق بما فيها أعمال إرهابية متعددة، وتحولت اليد العاملة الأجنبية والمتحدرة من المهاجرين إلى تهديد فعلي لا يستسيغه العمال المحليون، فتم تخفيض استقدام هذه اليد العاملة الأجنبية في منتصف العشرينيات، وتبع ذلك ركود كبير، والحرب والنظام الاقتصادي الجديد الذي يشهد اليوم تغيراً جذرياً وسريعاً وغير مرتقب.

والسؤال الأساسي الذي يطرح هنا في عام 2016 هو: كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع تحديات الإنتاجية والتكنولوجيا والعولمة؟ ولا يملك أحد أجوبة شافية عن هذا السؤال تماماً مثلما كان القادة يفتقرون إلى الأجوبة في عام 1916 (رغم أن البعض يزعم امتلاكه للأجوبة). ولن تكون الاستراتيجيات التي تتم دراستها الآن، لتحسين وضع العمال الأميركيين، سهلة التطبيق مهما كان نوعها، ولا شكّ أن اعتمادها سيؤدي إلى خلل وفوضى في المؤسسات الحالية، تماماً كما حصل مع الاستراتيجيات التي أدخلها فورد على شركة صناعة السيارات في حينها، مع ما يترتب على ذلك من مشاكل وصعوبات.

ويتحدث المرشحان حالياً عن الانسحاب من التجارة الحرة، وكأنّ ذلك الأمر سيجعل المشاكل مع العولمة تختفي بسحر ساحر، ويلوم ترامب المهاجرين والأجانب على كل مصائب أميركا، راسماً صورة جنة ضريبية ينال فيها الجميع ما يريدون، ومن دون أن يتوانى عن توزيع الإهانات في الاتجاهات كلها لا سيما لمن يعارضونه الرأي. ولا شكّ أن هيلاري كلينتون تسوّق لأفكارها بطريقةٍ أكثر تمدناً، ولكنها تغرق الناس بالوعود المعسولة ولا تفتح كوة لطريقة تفكير جديدة ومبتكرة، وخلاصة القول: العمال لا بل الأميركيون جميعاً يستحقون نقاشاً أكثر جدية وإنتاجيةً!