هل يحمل أبطالك سمة محلية نابعة من مجتمعك التونسي أم ترسمينهم بشمولية الإنسان العربي؟لست من المعتقدين بأسبقيّة الهويّات الوطنيّة على باقي الهويّات المركّبة. لذلك، رغم تحديدي الجغرافي للرّواية في إطار تونسيّ، فإنّ التّجارب المحكيّة تحاكي ما يمكن أن يمرّ به أيّ شخص يجد نفسه في ذات الظّروف. مثالاً عن ذلك، لا أعتقد أنّ الكثير من غير المتخيّل يجمع بين التّونسيّ وقرينه إن كان أحدهما فاحش الثّراء، ولم يعلم الثّاني متى سيتناول وجبته القادمة. الأحرى، أنّ الحدود الجغرافيّة والوطنيّة هذه متخيّلة كذلك، واعتباطيّة، رسمها مستعمر أوروبيّ في أغلب الأحيان في مناطقنا من شمال إفريقيا وجنوب غرب آسيا والشرق الأوسط. وذلك يعني شيئين: أوّلا، أنّ بناءنا لهذه الهويّات الوطنيّة الحديثة ابتدأ من مسلّمة ضمنيّة بصحّة حدود اعتباطيّة ورثناها من المستعمر، أي أنّه بناء عليل. وثانياً، أنّ ما يجمعنا أكثر بكثير ممّا نتخيّل أنّه يفرّقنا.
حياة جديدة
في روايتك «ذاكرة الرصيف» (2014) نوع من تعرية للآفات التي يعانيها المجتمع العربي، فأي نظرة تحملينها حول كيفية أن يكون المجتمع في المستقبل؟علّمونا أن نقدّس ماضينا، نحتقر حاضرنا، ونتخوّف من مستقبلنا على صعيد عربيّ. فالكثير منّا يمارسون عادة البكاء على الأطلال، والإيمان أنّنا قد وصلنا إلى تردِّ أخلاقي وعلمي ومعرفي لا رجعة منه. أرى أنّ معيار المقارنة الذّي نسم به أنفسنا «متخلّفين» لا مستقبل لنا، هو معيار مغلوط. وأعتقد أنّنا وإن رأينا أيّاماً أحلى على مستوى إقليميّ، فإنّ سيرورة التّاريخ ليست أحاديّة التّوجه، وأنّنا نمرّ اليوم بظروف صعبة، لكنّها كالمخاض، تحمل حياة جديدة.الواقع بما يحمل من حروب وأزمات وأفق مغلق... تقاربينه برموز وإشارات وليس بأسلوب مباشر، هل تحاولين الهروب من واقع لا يرضي حتى الآن طموحك ككاتبة وإنسانة؟ثمة الكثير من الصّراحة الفجّة في الرّواية، رغم ذلك اخيترت التّلميح في كثير من الأحيان، وذلك ثقة منّي في إمكانيّة وصل القرّاء رموز البطش والعزلة والأمل في الرّواية بالمقام المحلّي الذّي ينتمون إليه، وذلك لأنّ الأدب يطمح بأن يكون إنسانيّاً شاملاً. أمّا بالنسبة إلى طموحي الكتابي والإنسانيّ، أعترف أنّني مبليّة بالأمل الدّائم وغير المنطقيّ ربّما، فالإنسان اليائس لا يخوّل له تعبه أن يحاول ممارسة التغيير. والتّغيير قانون الحياة. ومن الجميل أن لا نكون راضين عن واقع بائس، ما لم نعتزل الأمل. كروائية شابة، إلى أي مدى تعكسين في روايتك هموم الشباب وخيباتهم من الواقع وتطلعاتهم إلى المستقبل؟أتابع في الرواية حيوات منذ الطفولة إلى الكهولة، مركّزة على مرحلة الشباب، وهي مرحلة بلورة المبادئ والسلوكيات. وأرى أنّه من الواجب نقلها بأمانة نظراً إلى انتمائي إلى هذه المرحلة العمرية. كذلك يجب على غيري نقل تجاربهم العمريّة المختلفة، لأنّ لدى الجميع قصّة تروى، وستساهم رواياتهم في أرشفة التّجارب الإنسانيّة، كما تفضح أنّنا لسنا وحيدين، وأنّه مهما بلغت بنا العزلة، سنجد تجربة تشبهنا.لماذا اخترت الرواية وسيلة تعبير؟تسمح لي الرواية بمجال حيويّ شاسع لاختبار أساليب مختلفة، ولتنشئة شخصيّات ورؤيتها تكبر وتتمرّد على كاتبها وتفعل ما تشاء. لذلك، عالم الرّواية مليء بالمفاجآت، ويسمح لي بحرّية تعبيريّة كبيرة.بين الواقع والخيال
برأيك هل يجب أن تلامس الرواية الواقع وأين موقع الخيال فيها؟أؤمن بأنّ كلّ الروايات تلامس الواقع على اختلاف مواضيعها، لأنّنا مبتلون بمركزيّة الإنسان في تصوّرنا للحياة وإن كانت في الفضاء الخارجيّ. كنّا نعتقد أنّ الشمس تدور حول الأرض، وغيرها من الاعتقادات الخاطئة التي تكرّس هذه المركزيّة. لذلك لا مجال للخلّص من إلحاح الواقع. أمّا الخيال، فهو مفتاح للإبداع، والأمل والتغيير. لأنّ النّقل وحده يعيد تركيب تجارب فاشلة. أمّا إن أضفينا عليه الخيال، فقد تقدّمنا، لأنّ كلّ ما نفتخر به من تطور واختراعات، تخيّلها عالم وفنّان وكاتب وإنسان قبل أن توجد.هل تنطلقين في كتابتك من حادثة محددة ونقطة معينة في مكان وزمان محددين، أم أنك لا تضعين أي أطر بمعنى أن الأحداث التي ترسمينها على الورق قد تحدث في أي زمان ومكان؟ يجب أن يتوافر بعض الظروف المحددة كي تحصل هذه الأحداث بحذافيرها في أي مكان من الأرض. ولكنّها في جوهرها تحصل أينما كان وبصفة يوميّة. مثالا عن ذلك، الشرطة التّي تجبر النّساء على ارتداء حجاب في بعض البلدان، تجبر النّساء على خلعه في بلدان أخرى. العرض مختلف، أمّا جوهر التّجربة، فهو عن تدخّل السلطة في جسد المرأة وملبسها، وهي تجربة إنسانيّة عامّة.تجارب شخصية
أين أنت في روايتك؟ بمعنى هل تضمنينها تجاربك الشخصية؟كلّ ما نكتبه ينبع من واقعنا وتجاربنا الشخصية وإن كنّا نكتب عن أشياء متخيّلة، لأنّنا نكتب من منطلق وعينا بالأشياء التي حولنا والتّي ارتسمت على بصرنا وانعكست على بصيرتنا فسالت حبراً على ورق. إن رسمنا هذه التجارب التّي نحاول جاهدين إقناع أنفسنا أنّها نابعة من المخيّلة، فذلك يعني أنّها في الحقيقة من صدى ما شعرنا به. ولذلك تحديداً تختلف الرّوايات على اختلاف الرّوائيّين. نلت جائزة الإبداع العربي في 2015 عن روايتك «ذاكرة الرصيف»، ماذا تعني لك الجوائز الأدبية ككاتبة شابة؟ تتطرّق النقود الأدبيّة والجوائز إلى أقلام توفّي أصحابها أو هرموا إلى حدّ لا يقدرون معه على حمل القلم عموماً. وأن تتحصّل امرأة من عمري على جائزة كهذه لهي لفحة أمل في أنّنا ننتبه إلى أقلام يافعة قد تنعش الأدب، بدل أن نتركه نخبويّاً. هذا يساهم في إثراء الإنتاج المعرفي الإنساني. لك شأن في قضايا المجتمع المدني ونشاطات عدة، إلى أي مدى يؤثر هذا النشاط في كتاباتك لأنك ترصدين القضايا الإنسانية عن كثب؟تقرّبني هذه النشاطات من الواقع، وتعطي مصداقيّة مؤلمة لكتاباتي. كذلك تبعدني عن البرج العاجيّ للأكاديميا، حيث يمضي كثير من النّاس الوقت في الوعظ عمّا لا يعرفون، وما لا يعنيهم، أي أنّهم يساهمون في جعل شخصيّاتهم أكثر غربة وبعداً عمّا هي عليه في الواقع، وينزعون عنها إنسانيّتها. نظراً إلى قربي من هذه القضايا، حاولت بأمانة أن أسبّق معيش غيري على ما أؤمن بأنّه صواب، أي على نظرتي القيميّة إلى المجتمع.حلاوة اللغة
ما علاقتك بالشعر؟حين اكتشفت حلاوة اللّغة، اتّجهت فوراً وعفويّاً إلى قرض الشّعر، وهي تجربة مررنا بها جميعاً عند المراهقة. ولأنّني من ألدّ أعداء نفسي ونقّادها الأدبيّين، اكتشفت مع الوقت أنّ تحرير الشعر من قواعده كما فعلت، انتقل به إلى النّثر، ولم يجعله شعراً حديثاً. وكي أكفّ عن الافتراء على الشّعر، أسميت الأشياء بمسميّاتها. لقد كان الشعر مدخلي إلى الكتابة، احتفظت منه بالصّور، لا الشّكل.ما جديدك الذي تعملين عليه حالياً؟ أعمل على رواية جديدة تتناول حياة هامشيّة خجلة. عموماً، نحن نكتب عن الأشياء مدعاة الفخر، أو عن العذابات البطوليّة. ولكنّنا نستحي من الكتابة عن اللّابطولة، وعن الخجل، عن الأشياء التّي نعرفها في قريرة أنفسنا ولكنّنا لا نبوح بها لعلمنا أنّها مغضوب عليها، ولكنّها في الحقيقة تشكّل أعنف جوانب الحياة.مشوار مهني وعمل تطوعي
الكاتبة رؤى الصّغير مجازة في العلوم السياسيّة، العدالة الانتقاليّة، وحقوق الإنسان في الجامعة الأميركيّة في بيروت. عملت في الصحافة، في تغطية أخبار الساحة السياسيّة التونسيّة، كذلك عملت مستشارة في قطاع التنمية السياسية على حماية المرأة من العنف الأسري، والمواطنة الفاعلة، والريادة الاجتماعيّة. ودرّست المسرح في قرية الأطفال SOS في مدينتها سوسة، وتطوّعت مع منظّمة المسرح العلاجي Catharsis في لبنان، كذلك تطوّعت في سيبيريا في تدريس اللّغة الإنكليزيّة، والمواطنة الفاعلة. لدى انتقالها إلى لبنان ساهمت في تأسيس مجموعة حماية العمّال الأجانب. شاركت في مؤتمرات سياسية وثقافية عربية ودولية، ومثلث تونس في منتدى عالمي للشاعرات، وهي عضو في برلمان الشباب التونسي، ومنظمات النهوض بالفئات الفقيرة والمهمشة.