في الوقت الذي كانت فيه كراهية الغرب حاضرة لدى مفكري عصر النهضة العربية، والتي تعود في جانب منها إلى عنف اللقاء بينهما، فإن إعجابا كبيرا بالحضارة الأوروبية اشتعل في أذهانهم ودفعهم نحو معرفة أسرار تفوقها، ومن ثم شحذ السواعد بغية حيازة أسرار التقدم تلك وفهم الأسباب الكامنة وراء تطور أوروبا وهيمنتها على أمل تطبيقها فيما بعد في مجتمعاتهم.

بالنسبة إلى رهط من المفكرين كان الوجه الحداثي للحضارة الأوروبية والمتمثل ببعديها الدستوري والإنساني هامشيا، حيث استبدت بهم الرغبة في تملك وسائل القوة التي كانت وجها من وجوه تقدم أوروبا، وذلك لاستيعابها وتوجيهها إلى الصدر الأوروبي الاستيطاني، ولكن في المقابل كانت هناك حاجة إلى معرفة الذات إزاء هذه الثقافة الجديدة وإزاء الحداثة التي وفدت معها، وهذا اللقاء كان التربة الخصبة التي نبتت فيها أسئلة جوهرية من طراز معرفي، من بينها على سبيل المثال، الكيفية التي من خلالها يصوغ المرء تعريفا للثقافة المحلية أو العربية أو الإسلامية بمواجهة الثقافة الأوروبية؟ وهل ثمة رابط بينهما؟ وهل بإمكان المرء العثور على بعض الأصول، والأجزاء، والمظاهر المشتركة بينهما؟ أم أنهما كانتا غير متكافئتين؟

Ad

صحيح أن هذا كله حصل على إيقاع انهيار العالم الإمبراطوري القديم وما صاحبه من وعي حاد بالإحباط، إلا أن هذه الأسئلة، بالنسبة إلى أغلب مفكري عصر النهضة، أعادت إلى التفكر قضايا تصب في المجرى العريض للحداثة، كالعدالة السياسية، ومركزية الدين في الفضاء العام والشخصي. وإذا صح أن العدالة السياسية كانت حجر الأساس في تطور أوروبا والشرط الشارط لنهضة الغرب، فإن حكم القانون ومحاسبة الحكام من المتطلبات الضرورية للنماء والتقدم، فكان نقد الاستبداد، على الرغم من أنه لا يقارن بمثيله الأوروبي، الفكرة التي تلون بها عصر النهضة العربية، وأبعد من ذلك كله هو الاعتراف به بوصفه حجر الأساس للتقدم في إدراك الحضارة الأوروبية.

ولئن كان الدين قضية شائكة في منطقة طورت تواريخ متناحرة لوجهه التاريخي، فإن المقارنة مع أوروبا أثارت أسئلة حول الصلة بين الدين والتقدم وحول الفرق في العلاقة بين التقدم المسيحي والتقدم الإسلامي، بلغت ذروتها في التساؤل عما إن كانت المسيحية مفضية أكثر تجاه التقدم، وبما يقدم تفسيرا لنشوء الحضارة الأوروبية؟ أم أن الظفر الأوروبي كان سببه تهميش الدين؟ والسؤال عن حالة الإسلام والمسيحية عند مقارنتهما بالحداثة؟

إن استئناف التمهيد الذي قدمه عصر النهضة العربية سيتأتى عنه لا محالة زيادة الجهر بأهمية إجراء مصالحة بين الدين والمجتمع والآخر من جهة، والدين والثقافة وروح العصر من جهة أخرى. وليس ذلك ضربا من النوستالجيا بقدر ما هو محاولة للخروج من مأزق تاريخي لم يعد خافيا طابعه التكراري، أما الحديث في غير ذلك فإنه تمارين على الافتقار الكارثي لكل ما هو ضروري.