لماذا العنوان {أبواب وشبابيك}؟

Ad

لأن لوحاتي التي رسمتها في الفترة الأخيرة تبدو كأنها هاربة من أفق إلى أفق. أنا ابن بيئتي وأتأثر بكل ما يحدث من حولي، لا سيما الحروب والأزمات التي تعصف بنا في السنوات الأخيرة ومظاهر الترحيل والارتحال التي تصيب الشعوب في أكثر من بلد عربي، وكان لا بد لريشتي من أن تنغمس في المعاناة وتمتص الحزن والأسى وتنقل ذلك كله على المساحة البيضاء. ولكن الأفق في لوحاتي ليس مسدوداً، بل ثمة شعاع أمل ينبثق من مكان ما يعزز الإيمان بالمستقبل، رمزت إليه بالشبابيك.

ما القاسم المشترك بين معرضك الجديد ومعارضك السابقة؟

أنا ابن بلد عانى الحرب سنوات طويلة، ومع كل مأساة يعانيها شعب في دولة مجاورة أو بعيدة، يعتصر الألم قلبي، من هنا معرضي الجديد هو تكملة لمعارضي السابقة من ناحية عيش نبض الإنسان المقهور والمظلوم إلى أي مجتمع انتمى.

أقاوم بالريشة واللون، وأريد أن أكون صوت الآلالف الذين تشردوا في الصحاري وغرقوا في البحر. هرب هؤلاء من نار الحرب في بلدهم فواجهوا أبشع أنواع الموت سواء غرقاً أو عطشاً وجوعاً...

مع هذه الصور التي أتابعها يومياً في وسائل الإعلام، عاودتني مشاهد التهجير من بلدتي الدامور خلال الحرب اللبنانية، وكانت أول بلدة تسيل فيها الدماء أنهاراً ويهجّر أبناؤها، وبلحظة خسرت بيتي وأقاربي ووجدت نفسي بلا مأوى وبلا هوية وبلا انتماء. انتقلت إلى مكان آخر، صحيح أنه على أرض وطني، لكن جرح التهجير كان عميقاً وبقي ينزف سنوات طويلة ولم يندمل إلا بعد عودتي إلى أرضي.

ثورة باللون

في لوحاتك الجديدة تبدو ألوانك قوية وصارخة أكثر من لوحاتك السابقة، فهل تعبر من خلالها عن ثورتك على ما يحصل من هتك كرامة الإنسان وإذلاله؟

ليست ثورتي على هؤلاء الإرهابيين الذين يعيثون في البلدان فساداً وقتلا وموتاً بل على الدول الكبرى الصامتة على مآسي مئات الآلاف من الناس، غير مسموح ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أن تباع النساء كالعبيد، أن يقتل الأطفال، أن يمارس أشد أنواع القتل، وأن يتفنن الإرهابيون في التغذيب... أين الضمير العالمي، أين شرعة حقوق الإنسان، أيعقل أن تعجز الطائرات والأسلحة المتطورة عن وضع حد لهؤلاء الإرهابيين؟ كل ما يحصل مرفوض، لكنني على يقين بأن فنون القتل التي يمارسها هؤلاء الإرهابيون سترتدّ عليهم يوماً ما، وستعود البشرية إلى رشدها وسيستعيد الإنسان المقهور كرامته وكبرياءه.

تركز في معظم لوحاتك على الحلم والطبيعة للهروب من قساوة الواقع، أين هما في لوحاتك الجديدة؟

في الخطوط والألوان، في الحركة وفي لعبة النور والظل التي هي بمثابة استراحة المحارب، وفي الإصرار على رسم مشاهد نابضة بالفرح رغم قساوة الحاضر. الريشة واللون عنوانان للحياة، صحيح أنهما ينزفان أحياناً لكنهما يخطان على المساحة البيضاء فصولاً من الحياة، وهذا طبيعي لأن الرسام التشكيلي يستلهم أفكاره من الحياة وليس من الموت، وإذا كان الظلام يجد طريقه إلى اللوحة إلا أن النور سرعان ما يطغى عليه.

أرض وحضور

على مدى سنوات وسنوات لم يكن للإنسان حضور مباشر في لوحاتك، ويخال الناظر إليها أنك حانق عليه أو رافض لحضوره في عالمك التشكيلي، فأين هو اليوم في لوحاتك؟

في لوحاتي التي رسمتها قبل الحرب التي عصفت بلبنان، احتفلت بالإنسان وتمحورت في معظمها حوله، ومع اندلاع الحرب وما رافقها من تهجير، اقتلعت كما كل المهجرين من أرضي، فغاب الإنسان في لوحاتي وصار حضوره رمزياً في قلب بيت مدمّر أو أرض محروقة، وفي بعض لوحاتي التي كان طيف الإنسان فيها حاضراً رسمته من دون قدمين لأن لا أرض له كي يضع قدميه عليها.

في ما بعد، مع انتهاء الحرب اللبنانية وعودتنا إلى قرانا وبلداتنا وبيوتنا، عاد الإنسان ليتصدّر لوحاتي بقدمين ثابتتين على الأرض، وعادت الطبيعة تضحك، كيف لا وأنا عدت إلى بيتي وملعب طفولتي وذكرياتي؟

لكن في السنوات الأخيرة ومع ما نشهد من ثورات ومن ربيع عربي مزيف، عاد الإنسان ليختفي وتحل محله أشكال ورموز هي بمثابة مفاتيح للولوج إلى عالمه، من دون أن يكون حضوره واضحاً في اللوحات التي هي صورة عن الواقع الرازح تحت حروب عبثية هدفها إلغاء الإنسان.

ما علاقتك بالأرض؟

الأرض هويتي وانتمائي، الأرض ملجأي، إنها حافزي على الاستمرار، إنها الأمل والضوء الذي ينير طريقي ويتصدّر لوحاتي، وهذا الضوء بالذات أضحى وطني، أسكن فيه مع أحلامي وأروي به أرضي لتبقى دائمة الإشعاع.

وحدها الأرض تبقى للتاريخ، تحكي حكايات المقاومة في وجه الغزاة، ومن لا أرض له لا هوية له. نحن نمر مرور الكرام في الحياة فيما الأرض تبقى صامدة معاندة تشهد تتالي الأجيال عليها وتحفظ في قلبها آلامهم وآمالهم.

رغم تعلقك بالأرض وتمسكك بالبقاء فيها لكن في بعض لوحاتك ثمة رحيل إلى مكان مجهول.

صحيح، وهذا المكان المجهول، أرمز فيه إلى هجرة الشباب اللبناني بعدما يئس من تأمين مستقبل له في بلده، وكثيراً ما سمعت ابني يعرب عن نيته السفر بعد تخرجه في الجامعة لأن لا مستقبل له في هذا البلد. ذلك كله يجعلتي أغرق في بحر من الغضب والأسى. وصلنا إلى مرحلة في لبنان ننشئ أبناءنا ونعلمهم ومن ثم نصدّرهم إلى الخارج ليستفيد منهم الغير بدل أن يستفيد وطنهم منهم. الشباب في لبنان بائس، لا رؤية واضحة لديه لمستقبله في بلده، فيضطر مكرهاً إلى الانضمام إلى قوافل المهاجرين.

تجربة مسرحية غنية
إلى جانب الرسم، للفنان جورج عقل تجربة غنية في التمثيل المسرحي، حول الدافع الذي حمسه للوقوف على خشبة المسرح يقول: «الرغبة ذاتها التي تحرّك ريشتي للرسم، أي عشق الرسم وعشق المسرح، كلاهما ولدا معي وترعرعا معي، وكان الرسم يشغل نهاري والمسرح ليلي. في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته انتميت إلى مدرسة المسرح الحديث التي أسسها المخرج المسرحي منير أبو دبس وشاركت معه في معظم مسرحياته، كذلك شاركت مع المخرج المسرحي ريمون جبارة وكبار رواد المسرح في لبنان، وعشت تجارب اختبارية أغنت مسيرتي المسرحية واستلهمت منها بعضاً من لوحاتي».

يضيف: «اليوم مع غياب منير أبو دبس، أخطط لإكمال مسيرته في المسرح الحديث، الذي يقوم على الممثل وحده ووضع الديكور والعناصر الأخرى في خدمته. هذه التجربة التي عشتها معه واختبرتها واقتنعت بها أود نقلها إلى الأجيال الشابة، كي تستمر شعلة المسرح اللبناني الأصيل متأججة، المسرح الذي يعبر عن هموم الناس وليس المسرح الذي يضحك على همومهم...