متى كان الأصعب سهلاً؟

نشر في 14-09-2016
آخر تحديث 14-09-2016 | 00:00
 طالب الرفاعي "كلُ عامٍ وأنتَ بخير".

"وأنتَ بالخير كله"، على غير العادة، استشعرتُ وهناً يلفّ صوته. عمراً طويلاً وجيلاً وراء جيل نستمد العزم منه. بدا مستسلماً وهو يقول:

"العيد يرش القلب بعطر فرح عابر"، سكت فجأة، ليضيف بعد برهة: "ما أصعب هذا في يومنا الراهن!".

"أنتَ المعلم الأول، شباب متجدد بروحك وفكرك وعزمك"، قلت ممازحاً: "ما عدتُ شباباً"، قالها بنبرة حاسمة وشيءٌ من أسى يلحق بها.

بدا واضحاً أن صاحبي ليس بصاحبي. انفتح حديث بيننا. سألني: "تعرف الحديث؛ القابض على دينه كالقابض على جمرة". صمت ينتظر ردي، فقلت: "نعم أعرفه"، فأوضح: "الآن، صار القابض على الأمل، كالقابض على جمرة".

"أنتَ منْ كان يمنحنا الأمل، ويحمي تحت حماسنا".

"كنتُ يا طالب. كنتُ في زمان كان يحمل ريحاً مؤملة، لكنها ريح سوداء تمر علينا الآن".

"نحن في العيد!"، قطعت عليه استرساله بنبرته اليائسة: "الغد هو أجمل الأيام، ألم تكن تردد علينا مقولة الشاعر التركي ناظم حكمت؟".

"ستبقى يا طالب، تقول في كل جملة؛ كُنتَ. نعم كنتُ يوم أمس، يوم كانت الأقطار العربية في حالة نهوض، وكان الوطن العربي يموج بالأمل والنضال والحلم بغدٍ أخضر يأتي على الشعوب العربية. كنتُ يوم كان؛ الملك، والعسكر، والقومي، والشيوعي، والبعثي، والإسلامي، وغيرهم كثير، هؤلاء أجمع، كلٌ منهم كان يعمل بهمة، تصل حد الاستعداد الأعمى للتضحية بحياته. يعمل ونصب عينيه غد مشرق يرنو إليه بنفسه وأهله ووطنه". غطت نبرة وجع صوت صاحبي، لكنه أكمل: "كنا نردد؛ سنرجع خبّرني العندليب... يا طالب أجيال كثيرة ما عادت تعرف معنى لكلمة العندليب".

"صديقي"، أوقفت تدفق وجعه.

خنس كلانا خلف سماعة الهاتف، قلت له: "آخر الليل صباح".

"أنتَ تعترف بأننا نعيش في ليل". قاطعني وقد عادت حدة نبرة صوتٍ أعرف: "ظلمة الليل يا طالب توجع القلب".

"كل ظلمة عابرة حتى لو أقامت".

"ونحن في مقامها نعيش الليل. ليل التشرذم، وليل العنف، وليل القتل، وليل تقطيع أوصال الوطن الواحد. ليل يقدم الأخ على قتل أخيه، وتأتي ضباع الأرض ومرتزقته لتقيم بيننا، وتُذيق أبناءنا ونساءنا الهوان والقتل والتشريد واللجوء".

انقطع عن كلامه، وكنت ألوذ بصمتي. "إلى أين تتجه بلداننا؟ كيف بأجيال من الأطفال لا تجد مأوى، ولا تعرف درباً لمدرسة، ولا تجد ما يسد جوع بطونها أو يستر عري أجسادها؟".

"اتصلت كي أسمع صوتك بالعيد".

"لماذا تهرب من سماع الحقيقة؟"، سألني وأكمل دون أن ينتظر رداً: "أعرف أنها مؤلمة، وأعرف أنها تلسع القلب بسكين نارها، لكنها الحقيقة. فنحن نعيش في ممر التغيّر الأصعب. جنون العولمة، ووحش الاقتتال يحيط بنا من كل صوت".

"هناك شباب بوجوه باسمة تحمل كل الأمل، وفي جميع الأقطار العربية". قاطعته: "هؤلاء هم كفة الميزان الأخرى. الكفة الأجمل، الكفة التي تعيش الحياة الراهنة مبشرة بمستقبل أخضر تسير إليه".

"صعب".

"ومتى كان الأخضر سهلاً؟ متى كان المنى سهلاً؟ متى كان الأصعب سهلاً؟".

"ربما"، قال لي وقد عاد الوهن لنبرته.

"أيها الصديق المعلم، أنتم جيل عظيم ربَّى أجيالاً على عشق الوطن وعلى الأمل وعلى الفكر وعلى الأدب وعلى الطيبة والحرية والسلام. أنتم جيل نعتز به، فلا تنسحبوا من الطريق".

ظل خلف صمته.

"أيها الصديق، أنتم من دلنا على الخير، وأنتم من أمسك بأكفنا الصغيرة، وأنتم..".

"صحيح، لكن دورة الزمن كانت قاسية، كانت أقسى من توقعاتنا، وكبيرة كانت الخيبة ومؤلمة".

"أنتم من علّمنا الزمن ليس اللحظة الراهنة، وأن تاريخ الأمم عقود طويلة، وأن الرهان يكمن خلف المنحنى".

"لك رشة فرح عيدٍ تعطر يومك".

"ولك بقاء يليق بمعلم أول".

سكتنا معاً، فقلت له: "اليأس لا يليق بحياة متجددة".

back to top