خلال السنوات التي أعقبت الأزمة المالية العالمية في 2008 – 2009 ظهرت الشقوق في الهيمنة العالمية لليبرالية الجديدة، وقد توجهت بشكل ما نحو الاعتدال الضغوط المؤيدة للأسواق الحرة ورفض نموذج الرعاية الاجتماعية.

وفي الولايات المتحدة، نجح الرئيس باراك أوباما في وضع أول نظام عام للضمان الصحي في تاريخ ذلك البلد، وهكذا اقتربت واشنطن بقدر أكبر نحو نموذج دولة الرفاهة الأوروبية، وقد فعلت أميركا ذلك بشكل جزئي لأسباب اقتصادية، لأن نظام الرعاية الصحية الخاص التمويل كان مكلفاً جداً – بسبب الانتقائية الاجتماعية على وجه التحديد.

Ad

ويمكن ملاحظة النزعة التصحيحية أيضاً في نوعية الرأسمالية في الصين، وقد أفضى التحول خلال العقود الثلاثة الماضية الى انقسام المجتمع الصيني الى طبقة عليا صغيرة وطبقة متوسطة حضرية وعمال مهاجرين وسكان مناطق ريفية غير متقدمة، وهذه الانقسامات في المجتمع الصيني الأكثر تبايناً من المجتمع الأميركي أو الروسي تسهم في توليد وحدوث توترات اجتماعية واحتجاجات وأعمال عنف، وفي سنة 2012، على سبيل المثال، أعلنت السلطات الصينية عن حدوث 180000 اضراب ومسيرات احتجاج غير رسمية.

ويلجأ الشعب الصيني الى هذه التكتيكات بسبب عدم وجود مؤسسات ديمقراطية يمكن من خلالها اجراء مفاوضات من أجل التوصل الى حلول للمشاكل، بينما يحاول الحزب الشيوعي الصيني تخفيف حالات التوتر عن طريق تشجيع التوجه الاستهلاكي واتباع سياسة اجتماعية أكثر نشاطاً وفاعلية، وطوال العديد من السنين عمل الحزب على خلق مدى من أجل زيادات في الأجور والاستهلاك الكبير كما حاول اقامة دولة رفاهة عن طريق نظام تقاعد وضمان صحي.

الحاجة الى النمو الاقتصادي

ولكن هذه النسخة الأكثر مساواة من الوجهة الاجتماعية من رأسمالية الدولة يمكن أن تنجح فقط اذا تمكن الاقتصاد من تحقيق ما يكفي من النمو، وفي السنوات القليلة الماضية تباطأ النمو في الصين الى حد كبير فيما ارتفعت بحدة الديون الخاصة والتجارية والعامة.

وفي رأسمالية الدولة في روسيا، أسهم نقص الدعم الاجتماعي في اعاقة النمو الاقتصادي وتطورت المشاريع الخاصة بصورة ضعيفة، وتعتمد روسيا بشكل رئيسي على عوائد صادرات النفط والغاز في تغطية متطلباتها المعيشية – وكانت تلك العوائد كافية حتى سنة 2014 لوضع روسيا على قدم المساواة مع الغرب المنهك اقتصادياً ولكن نظراً لهبوط أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية التي فرضت على موسكو في أعقاب غزوها لأوكرانيا فقد تضررت روسيا بقدر كبير.

ويبدو الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مثل نسخة سيئة من مجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة الذي يرجع الى العصر السوفياتي ولكنه بالنسبة الى دول أوروبا الشرقية التي تسعى الى الاندماج والتكامل يظل بديلاً للاتحاد الأوروبي على الرغم من كل شيء. ويعتبر الاتحاد الأوراسي أكثر قبولاً من جانب الأوقراطيين بسبب أسلوبه الفضفاض ازاء حقوق الانسان والمشاركة الديمقراطية والحوكمة.

وتنطوي رأسمالية الدولة في الصين وروسيا على الكثير من التناقضات، ولكن مزيجهما من الأنظمة المطلقة واقتصاد السوق الحرة بشكل جزئي (وهي سمة أقل في روسيا منها في الصين) قد تسبب في طرح تحديات خطيرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي بالنسبة الى الغرب، وقد وجه رئيس وزراء المجر فيكتور اوربان المعجب بهذا الأسلوب بلاده في هذا الاتجاه منذ الأزمة المالية العالمية في سنة 2008.

وهكذا غدت المنافسة في النظام قضية جلية ضمن الاتحاد الأوروبي ورأسمالية الدولة، كما كان الحال مع الليبرالية الجديدة قبل حوالي 25 سنة، لا تظهر فقط في الأفق بل وصلت في الأساس الى دول الاتحاد الأوروبي، ومن أجل مواجهة هذه التحديات الخارجية – والداخلية الى حد ما – يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يحقق ما أمكن من الوحدة.

ولكن في حقيقة الأمر، فإن السياسات الاقتصادية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تعمل على تفريق تلك الدول، والبعض من بلدان ما بعد الشيوعية قلصت بقدر اكبر من مساعداتها الاجتماعية في أعقاب الأزمة المالية العالمية والركود الذي حدث بعدها.

هجرة العمالة

وإلى حد ما خففت هجرة العمالة من تلك الدول من الضغوط الداخلية فيها، ولكن موجات الهجرة الى الدول الغربية أفضت الى دفع تكلفة سياسية عالية. وكان تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي قد عبر عن رغبة شعبية ضد الهجرة من بلدان أوروبا الشرقية.

وفي غضون ذلك، تعتبر دول جنوب أوروبا الأكثر تردداً في تنفيذ الاصلاحات، ولكنها على الرغم من ذلك لا تملك الوسائل اللازمة من أجل مواجهة الأزمة عن طريق برامج انفاق، وربما تكون سياسات التقشف قد ساعدت على خفض العجز المالي في ميزانيات تلك الدول، وقد حققت اليونان وإيطاليا ما يدعى بفائض أولي قبل دفع الفوائد المترتبة على ديونها الوطنية القديمة خلال عدة سنوات، ولكنهما دفعتا ثمناً اجتماعياً واقتصادياً عالياً.

التكلفة السياسية

من الوجهة السياسية، يتحمل الاتحاد الأوروبي تكلفة اعتباره مسؤولاً عن السياسات الليبرالية الجديدة حتى مع عدم اتباعه لتلك الأساليب المدفوعة بالسوق بشكل ثابت، وبصورة عامة يتعين عدم المساواة بين الليبرالية الجديدة وسياسات التقشف، وكان التقشف واحداً من 10 نقاط فقط في «اجتماع واشنطن» في سنة 1989، وإذا كانت إحدى الحكومات جادة في اتباع العقيدة الليبرالية الجديدة سيتعين عليها أن تستتبع التقشف بمزيد من الإصلاحات مثل خصخصة المشاريع المملوكة للدولة وتحرير سوق العمل.

ومنذ انهيار حكومة التكنوقراط برئاسة ماريو مونتي في ايطاليا حاول رئيس الوزراء الحالي ماتيو رينزي من يسار الوسط القيام بذلك العمل – وتذكر خططه الرامية الى تحرير قطاعات معينة وتخفيف حماية الموظفين، اضافة الى تحرك الحزب الديمقراطي الايطالي نحو الوسط السياسي تذكر بالاصلاحات الألمانية التي دعت اليها الحكومة الاشتراكية في 2001 – 2005 وبحزب العمال الجديد في المملكة المتحدة.

ومثل غيرهارد شرودر الذي شغل منصب مستشار ألمانيا من سنة 1998 إلى 2005 فإن رينزي لا يريد أن يعرض للخطر سياساته الاصلاحية من خلال التقيد بسياسة تقشف صارمة. ولذلك فقد اتخذ أسلوباً ليناً ازاء حدود العجز المالي في معاهدة ماسترخت عند 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة الى الديون الجديدة.

ولكن رينزي يتعرض إلى مشاكل لم تواجه شرودر، والسياق الاقتصادي العالمي مواتٍ بقدر أقل كثيراً، وعلى الصعيد الداخلي تبددت ثقة الشعب الايطالي في قدرة الاصلاحات على توليد الازدهار والانتعاش، وكانت معدلات النمو مخيبة للآمال وتعثر الاقتصاد، وفي حال فشل الإصلاحات قد تكون العواقب مهلكة وقاتلة.

قد تصبح إيطاليا دولة لا يمكن أن تحكم، وربما تنهار منطقة اليورو أيضاً، ولذلك فإن الحكومة الإيطالية الحالية تستحق أكبر قدر ممكن من الاهتمام والدعم كما كان حال دول أوروبا الشرقية في الماضي. وإذا دخلت الإصلاحات المتوازنة إلى حيز التنفيذ والتي تركز على الحوكمة كما تركز على الاقتصاد فإن النتيجة سوف تكون اعادة الحيوية الى الدولة الايطالية.

زيادة عوائد الضريبة

كانت ألمانيا تعمل من أجل تعضيد دولة الرفاهة منذ سنوات عديدة، والزيادة في عوائد الضريبة التي حققتها الحكومات المتعددة في ظل المستشارة أنجيلا ميركل قد استخدمت ليس لأجل مساعدة دافعي الضرائب – كما كان الحال في عهد الحكومة الاشتراكية الديمقراطية – بل من أجل تحقيق ميزانية متوازنة وتمويل الانفاق الاجتماعي.

وتتبع سياسة ميزانية مشابهة عدة دول منها بولندا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك، ولم يعد التوجه الاقتصادي أولوية قصوى بالنسبة الى تلك الدول التي تعمل من أجل بناء دولة الرفاهة فقط.

ويمثل التحول التام في اصلاحات دولة الرفاهة هذا الجانب بوضوح تام، واعتباراً من منتصف التسعينيات من القرن الماضي حرصت الحكومات الأوروبية – في الشرق أولاً، ثم في الغرب، وبشكل متزايد على اعطاء أنظمة التقاعد والضمان الصحي الى القطاع الخاص، وشكل هذا بعداً جديداً من الخصخصة لأن ذلك لم يعد يؤثر فقط على الاقتصاد أو على المشاريع التي كانت في السابق مملوكة للدولة مثل الخدمات البريدية أو السكك الحديدية، بل على المناطق الأساسية في دولة الرفاهية أيضاً.

وفي الفترة التي أعقبت الأزمة المالية العالمية في سنة 2008 – 2009 توقف هذا الاتجاه كما انعكس في بعض الحالات، وكانت الخطط القديمة إلى حد كبير، تنفذ إما من قبل الدولة بصورة تامة – كما هو الحال في المجر حيث كان يهدف رئيس الوزراء الى تحقيق زيادة في ميزانية الحكومة – أو مقيدة بشدة (كما حدث في بولندا وسلوفاكيا بسبب التكلفة العالية للخطوات الادارية المتعلقة بشركات التأمين) وهكذا تم احياء نظام الدفع حسب الأداء القائم على التضامن الاجتماعي.

التأثير في قيم المجتمعات

وكان لذلك تأثيره في قيم المجتمعات وسياساتها أيضاً، ولم يعد النموذج الأوروبي من دولة الرفاهية يعتبر عتيقاً بل أصبح له مستقبله الواعد من جديد.

ولكن على الرغم من ذلك فإن التوجه نحو اقتصاد الأسواق الاجتماعية لم يكن ظاهرة عالمية، وبينما عززت الحكومة الألمانية مسار دولة الرفاهية على الصعيد الداخلي كانت تقترح سياسة تقشف على دول جنوب أوروبا، ومن المعروف أن برامج خفض التكلفة تصبح ضرورية ولا يمكن تفاديها بمجرد الوصول الى مستوى معين من الديون، ولكن يندر أن يواكب ذلك إجراءات ضرورية من أجل تحسين احتمالات وفرص الطبقات الفقيرة – وخاصة جيل الشباب.

ومادام التركيز على السياسة المالية وما تتطلبه خطط التقشف قد استمر فإن مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل سوف تعتبر داعية اقتصاد أسواق لا اجتماعية لا العكس.

توترات أوروبية

ومن شأن هذا احداث توترات حتمية في دول الاتحاد الأوروبي كما أنه سوف يفضي الى زيادة في الدعم الذي تحصل عليه الأحزاب الشعبية – وهو تطور ظهر بصورة واضحة تماماً في الانتخابات الأوروبية في سنة 2014، وفي وسع المرء أن يدرك حقيقة أن مجتمعات الاتحاد الأوروبي تزداد تباعداً (وخاصة في أعقاب الأزمة التي نجمت عن تدفق اللاجئين الى القارة والتي بدأت في السنة الماضية)، أو أن يأمل في أوقات أفضل في المستقبل، ولكن قبل أن يترك مستقبل القارة الأوروبية كي تقرره «الأسواق» يتعين على الدول الأكثر ثراء في أوروبا اجراء جدال سياسي علني حول العواقب والتبعات المحتملة في هذا الصدد – مثل هجرة العمال الواسعة أو حدوث زيادة في ضعف الاتحاد الأوروبي.

لقد طرح تاريخ أوروبا في العقود الثلاثة الماضية – وخاصة بعد تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل أقل من ثلاثة أشهر – أدلة كافية على تعرض وتفجر النظام الذي وضع في سنة 1989.