في تصدير رواية "ولا تزال الشمس تشرق" لارنست همينغواي، نقل الروائي عبارتين؛ الأولى "أنتم جميعا جيل ضائع"، أطلقتها عليه وعلى أقرانه الذين عاشوا فترة الحرب جيرترود شتاين، وهي روائية أميركية عاشت في باريس وكان لها صالون أدبي يرتاده مشاهير من الأدباء المغتربين في تلك الفترة.

والعبارة، كما تقول شتاين نفسها، سمعتها من صاحب محل تصليح سيارات وهو يعاتب عامله الذي تأخر في إنهاء سيارة. وحين التقت همينغواي أعادتها عليه أكثر من مرة، ليكتبها هو في مقدمة الكتاب، ناسبا العبارة لها، وواصما جيله الذي نشأ في فترة الحرب العالمية الأولى بها.

Ad

أما العبارة الثانية، فهي نقلا عن سفر الجامعة في التناخ اليهودي Ecclesiastes، وورد فيها العنوان الذي اقتبسه لروايته. وبالمناسبة، لم أجد هاتين العبارتين في الترجمة التي نقل بها د. بديع حقي الرواية للعربية.

عبارة "الجيل ضائع"، هي ما يهمنا في المقال، وهي عبارة تمتد لكل جيل أدبي ينشأ في الحروب وتضيق به الأمكنة في بلده لأسباب كثيرة ويقرر الاغتراب أو الهجرة، سواء كانت مؤقتة أم مستديمة.

وبالتأكيد يرافق هذا الجيل الأدبي مجموعة من العقول العلمية ومن ذوي المهارات التقنية والعمال والمزارعين، والذين يجدون كيانهم في أماكن بعيدة عن أراضيهم وبلدانهم. وكانت أغلب هذه الهجرات إلى أوروبا وأميركا، ومعظم المهاجرين من دول عربية وآسيوية تعاني الفقر وتفتفر إلى الحرية.

في المقابل، كان الوضع في أميركا العشرينيات وبعد الحرب مباشرة يوحي بأن البلاد ونتيجة للدمار الذي خلفته لم تعد أرض الأحلام، وكانت باريس المحطة الأهم في حياة الكُتاب الأميركيين والأوروبيين، والمجاميع التي نضجت أدبيا في تلك الفترة وهاجرت تضم الأسماء الأكثر تأثيرا في الحياة الثقافية فيما بعد.

لكن الغريب هو الصفات اللغوية التي أطلقت على المغترب الأبيض، مقابل الصفات التي تطلق على المهاجر الآخر، بمن فيهم الأدباء والعلماء وغيرهم، حتى وإن كانت إقامتهم ليست دائمة في تللك البلدان. فيستخدم الأدب مصطلح Expatriate، أو يختصره إلى Expat للرجل الغربي "السوبر"، ويستخدم مصطلح Immigrant للآخر القادم إلى بلاد الرجل الأبيض.

ورغم أن التعريف القاموسي للمصطلحين لا يختلف في المعنى الدلالي، فهو يشمل الاغتراب المؤقت والدائم. لكن المصطلح الأخير لا يستخدم للرجل الأبيض عموما، سواء إقامة مؤقتة أم دائمة.

الأدباء العرب، على سبيل المثال، وهم لا يكتبون أدبهم باللغة التي هاجروا إليها تماما كما كان يفعل الأديب الغربي في باريس، وكما يفعل في إفريقيا وآسيا، ورغم ذلك يطلق عليه "مهاجر"، كتعبير اجتماعي عنصري لا يصل إلى الصفة التي تطلق على قرينه الغربي، والذي ربما نسميه رحالة أو خبيرا أو باحثا في بلادنا.

أما الأدباء الذين يكتبون بلغة بلد المهجر، فهم أيضا كتاب مهجر إذا لم يكونوا ذوي بشرة بيضاء. الكندية المهاجرة البريطانية سوزانا مودي تعتبر كاتبة كندية، لكن ريهنتون ميتسري روائي هندي-كندي. الأولى مواطنة أولى، أما الثاني فمواطن مهاجر، حتى وإن كتب بذات اللغة.

الجيل العربي الضائع في المنافي، والذي ربما ستطول غربته، وربما انضم إليه جيل آخر كما يوحي المستقبل، ينظر إلى اللحظة التي تهدأ فيها البلاد وتستقر، ليعود تاركا صفات الغربة ومستوياتها الاجتماعية المتمايزة.