كرمت كضيف شرف في ملتقى القاهرة للخط العربي بدورته الثانية أخيراً... ما رؤيتك لهذا الملتقى؟

أمضيت ثماني سنوات في مصر مشرفاً على برنامج لإحياء الخطوط القديمة، ودعُيت من وزارة الثقافة المصرية ممثلةً بصندوق التنمية الثقافية لأكون ضيف شرف في هذه الدورة الثانية. ممنون بالطبع للجهات التي تشرف على الملتقى، خصوصاً أنه يمثّل قفزة نوعية تستعيد مصر من خلالها دورها الريادي في هذا المجال.

Ad

شاركت بثلاث لوحات في الملتقى بالخط الأندلسي. ما طبيعة هذه الأعمال؟

بدأ الخط الأندلسي ينتشر ويتجاوز المنطقة الجغرافية التي نشأ فيها، وهي المغرب والأندلس والجزائر وتونس. بدأ يكتب ويدرس في القاهرة وانطلق إلى جنوب شرق آسيا عن طريق طلابي الذين أجُيزوا في مصر، ومشاركتي إسهام في إضافة جديدة إلى خط كان مجهولاً حتى زمان قريب، إذ لم يكن معروفاً في منطقة المشرق.

كيف تنظر إلى فن الخط العربي وتعليمه راهناً؟

للأسف، بدأ يُفقد في بعض البلدان مع التطور في المجتمعات، وتحوّل نظام الإجازات إلى دبلومات خطوط من مدارس وجامعات على شكل شهادات إدارية مختومة، بينما يعتمد النظام التقليدي على ملازمة الأستاذ مباشرة، ففن الخط هو الفن الوحيد الذي لا يمكن تعلمه من دون اتصال مباشر مع الشيخ.

أصبح فن الخط المعقل الوحيد للمسلمين في زمن العولمة. فكل أمة ترجع إلى جذورها، وما يثبت هويتها. لليونان مثلاً الحق في أن تفخر على مر العصور بأنها أول من ابتدع فن المسرح، أما فرنسا فتفخر بأنها أول من ابتدع فن السينما، فيما للمسلمين الحق في أن يفخروا بأنهم أول من ابتدعوا فن الخط لأنه يميزهم عن الأمم والشعوب، فلا تجد أمة تشاركنا فيه، بينما نشارك نحن الأمم الأخرى في فنونها من مسرح ورسم ونحت... وغيرها.

وصل الغرب إلى مستوى الفنون الجميلة، بينما تجاوزنا نحن الجمال إلى القدسية، فن الخط مرتبط بالقلم، والأخير ذُكر في أول منازل الوحي، بمعنى أن له قدسيته ودوره في حياة الإنسان. كذلك أول ما جاء في الروايات النبوية أن الله أمر القلم أن يكتب، فقال و{ماذا أكتب يا ربي»، فقال عز وجل: «اكتب الأقدار والآجال»... هذا القلم هو أعظم قلم كتب على اللوح المحفوظ، يليه في الدرجات القلم في يد الملائكة «وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين»، ويأتي في المرتبة الثالثة القلم في يد الإنسان.

جذور الخط

لماذا ربط الخط العربي بتركيا رغم ما قدمه العرب من إسهامات عدة في هذا المجال؟

انطلقت البدايات الخطية على أرض الجزيرة العربية مع الخط الحجازي (المكي والمدني) كما نعرف، وهو أول ما كتب به الوحي، ثم تطوّر في مدينة الكوفة عندما كانت عاصمة في زمانها الزاهر. أما القواعد والنسب فظهرت في العراق على يد ابن مقُلة، ثم جاء ابن البواب، يليه ياقوت المستعصمي. نتذكر الدور العثماني هنا عندما استقر المقام بالسلطان أبي يزيد حيث كان أستاذه في الخط يقدم له آخر الكتابات التي انتهت عند ياقوت المستعصمي الذي كان في زمنه قدوة الكتُاب في بغداد. طلب منه أستاذه دراسة خطوط ياقوت وتنقيحها والخروج بأسلوب عثماني. بالطبع الدور العثماني هنا كان في التجويد. كان لبغداد فضل البداية، ولكنّ للعثمانيين فضل التجويد لأكثر من 500 عام.

اليوم أكبر الخطاطين الأئمة أتراك. مثلاً، أسعد اليساري الذي تُوفي عام 1945، نقّح الخط الفارسي الإيراني وانطلق يطوّره إلى ما بعد الحالة التي توقّف عندها الإيرانيون، بدأت خطوطه في الثلث والنسخ تتطوّر إلى أن استقرت على يد محمد شوقي الذي رحل عام 1978، ولم يستطع أحد أن يضيف شيئاً بعد رحيله. كذلك محمد رفعت طوّر خط الرقعة إلى أبعد الحدود... إلخ. نُدرّس اليوم كراريس هؤلاء. صحيح أن البلاد العربية ساهمت في هذا الأمر، ولكن يبقى الأساتذة العثمانيون هم النخبة التي نرجع إليها، وهذه حقيقة تاريخية. وبالطبع، ثمة فطاحل في العراق والشام ومصر، إلا أن الجميع يعود إلى المنبع.

يقُال إن الخطين الياباني والصيني فقط يهتمان بالتشكيل. ما الذي يميزهما؟

لا تعتمد الكتابة الصينية أو اليابانية على القلم بل على الفرشاة التي تستعمل الحركة الجسمانية، ولها ضوابتها وثوابتها. شخصياً، أبقى دائماً في إطار القلم الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وأرسم به، وهو ما تُمُارس به الكتابة العربية. لا أخوض في ما يقُال عن الكتابة اليابانية كثيراً.

ما نصيحتك للخطاطين الشباب ؟

عليهم أن يعرفوا أن تراث الأمة وحضارتها لن يستمرا إلا بالتشبث بالثوابت والمبادئ. لدي الآن طلاب درسوا في جامعة الأزهر من أكثر من 30 دولة جميعهم متشبثون بالنهج الكلاسيكي، ما يؤهلهم لاستعادة هذا الفن في إطاره التراثي. لاحقاً، إذا أراد أي منهم الدخول في المجال التشكيلي، يكون قد أضاف تعديلاً، ولكن في إطار احترام الهندسة الحقيقية وأصول اللغة العربية.

الذاكرة... والاتجاه الحروفي

العمل الذي لا يحمل ذاكرة يموت سريعاً، فإلى أي مدى تسعى إلى وجود الذاكرة في أعمالك؟

تختفي الأمور السطحية أو تخمد حركتها كلما جاء جديد. أما الذاكرة فتتشبث بالأصالة والثوابت، وكلما تمسكنا بهما تقدمنا. إذا حفظت الذاكرة الأصول فلن يضيع أي شيء. والذاكرة التي يجب أن تستمر هي ذاكرة الفن المبني على أسس هندسية أصيلة متوارثة لتنتقل عبر العصور من جيل إلى جيل.

كيف ترى الاتجاه الحروفي الذي يتبناه خطاطون عرب ويعتبرونه تزاوجاً ما بين الحرف العربي من جهة والتشكيل من جهة أخرى؟

لأنني خطاط كلاسيكي ودرست على الطريقة الكلاسيكية التقليدية لا أميل إلى الواقع الحروفي أو التشكيل. لهذه المدرسة بالطبع اتجاهاتها وأهلها، ولكنني كلاسيكي وسأبقى كذلك، لأننا إذا توجهنا إلى الاتجاه الحروفي والتشكيلي قد نفقد جذورنا وتُجتث ثوابتنا، وفي حال اعتمد الجميع الحروفية سيختفي الاتجاه الكلاسيكي بعد 50 أو مئة عام، لذلك لا بد من الحفاظ على الثوابت.

عندما يتقدّم العمر بالمبدع، هل يعتمد على خبرات السنين أم يطور تجربته؟

تأتي التراكمات بالجديد دائماً. كلما تقدم الخطاط في العمر جاءت التراكمات لتعطيه خبرات أخرى، وتجعل منه في كل يوم إنساناً وخطاطاً جديداً. من لا يتحرك في هذا الاتجاه يصبح جامداً، والجمود ليس من صفات هذا الفن فهو فن الحركية.

عندما أدرّس الخط للطلاب، أشعر بأنني أستاذ جديد كل يوم، فلا أكرر ما قمت به سابقاً. عموماً، أي خطاط إذا راجع أعماله بعد عام يجد نفسه يصححها. الخط هو الفن الوحيد الذي يختلف عن الفنون الأخرى لأنه يرقى بنا إلى مرتبة القدسية كما أشرت. كتبت ثمانية مصاحف، وكتابة المصحف عالم آخر، فكل مصحف أكتبه بالخط نفسه، ولكن بحجة أخرى تختلف عن سابقتها.

إحياء الطرائق القديمة

حصل د. بلعيد حميدي على خمس إجازات في خمسة خطوط من مشايخ الخط الكبار، وهو أستاذ سابق في المعهد المولوي بالمغرب منذ عام 1998 حتى 2008. جاء بعد ذلك إلى مصر للإشراف على برنامج إحياء الطرائق القديمة في فن الخط التي عاش عليها أسلافنا، وتعتبر مصدراً لتدريس فن الخط. كذلك هو حكم دولي في مسابقة أرسيكا الدولية في إسطنبول، ونال جائزة في مهرجان طهران العالمي لفن الخط عام 1997. منح أيضاً ما يقارب من 400 إجازة في فن الخط لطلاب من مختلف الدول العربية والأجنبية.