ليس هناك دليل دامغ على جمودنا الحضاري أكثر من القيام بنظرة عجلى إلى الوراء، وتحديدا إلى بدايات عصر النهضة العربية. سنرى دائما أن اللون الذي يكسو وضعنا الحضاري كان السكونية الهائلة، وقد يتخلل هذه النظرة قدر لا بأس به من المهانة عند المقارنة مع الآخر الغربي المتقدم علينا منذ أمد بعيد، وعلى الرغم من أن كل شيء كان ولا يزال ممكنا قوله في فواتنا الحضاري فإن العودة إلى فجر النهضة العربية، وتحديدا إلى ما يعد تدشينا لمشروعها الطموح والمتمثل بالصورة البانورامية التي رسمها رفاعة الطهطاوي في كتابه الذائع الصيت "تخليص الأبريز في تلخيص باريز" الذي يعد بحق عمدة كتب عصر النهضة العربية، تكشف لنا حجم التخلف الذي نرزح تحت وطأته.

فهذا الكتاب الكلاسيكي ينتصب، في روحه ومضمونه، شاهدا على مقدار جمودنا الحضاري وعلى بقائنا مذاك قابعين في المربع الحضاري الأول، فالمنطقة العربية لم تتقدم خطوة واحدة منذ ما يربو على المئتي عام التي تفصلنا عن هذه الرحلة التاريخية، بل لحق بها ضمور ثقافي وفكر وظواهر متفرقة تحيل جميعها إلى انطفاء جذوة عصر النهضة في قلوب أبناء المنطقة، ومن ثم إحجامهم على النقيض من أسلافهم عن محاولة فهم مكامن التقدم الحضاري وأسرارها وتمثلها.

Ad

ما زلنا في زمننا الراهن كما الطهطاوي في سياحته الباريسية، نبدي إعجابنا بوجوه كثيرة من مظاهر الحياة الغربية والأعراف الحياتية وأدوار الذكور والإناث، وفن العمارة، والتصميم الداخلي للمنازل، وطبيعة الترفيه الداخلي والخارجي، والمطاعم والمقاهي وصالات الرقص والمسارح والمتاحف، ونعترف جهارا بروعة منظومة المواصلات والصحة والتعليم والصحافة التي أنجزها تقدمه.

وتماما كالطهطاوي ما زلنا ننظر بإعجاب متناه وبمشاعر مشابهة لما اختلجت في نفسه، تجاه انتشار الثقافة في كل زوايا المجتمع الغربي، حيث الصحافة سلطة تمتلك من القوة ما يحطم السلطات جميعها، والناس تجدهم يغرسون رؤوسهم في الصحف والمجلات والكتب أثناء وقوفهم في الشارع أو جلوسهم في المقاهي أو تنقلهم بوسائل المواصلات.

ولنا أن نمضي في العد إلى ما لا نهاية تبيانا لتطابق حالنا الحضارية مع حال الطهطاوي وزمنه، ولكن الأخير لو قام بسياحة جديدة في ربوعنا فسيجد أن الآخر انتقل في ميدان العلاقة بين الحاكم والمحكوم- وهو ما استبد بعقل الطهطاوي في رحلته وجعله يترجم الدستور الفرنسي فقرة بفقرة ويذهب إلى القول إن بين ثناياه الحكمة الإنسانية على الرغم من أنه ليس كتابا مقدسا- إلى مفاهيم متطورة واضحة لا لبس فيها بإدارة الشأن العام والعلاقة بين البشر، حيث لم تعد فكرة صنع الدولة-الأمة أو مجتمع الشبيه غاية الفكر السياسي بقدر الانتقال إلى فكرة المواطنة بوصفها الحجر الأساس في تأسيس الدولة الحديثة التي تحقق الرفاهية والسلم الاجتماعيين لمواطنيها على الرغم من الخلفيات المتنوعة التي يصدرون عنها.