في شهر أبريل من عام 2015 عقدت منظمة "الأمبودسمان"، أو "محرري شكاوى الأخبار"Organization of News Ombudsman العالمية مؤتمرها السنوي في مدينة هامبورغ الألمانية، بحضور أكثر من 50 خبيراً من شتى أنحاء العالم، لمناقشة مسائل أخلاقية ومهنية تتعلق بصناعة الأخبار في المؤسسات الإعلامية.

ورغم أن نظام "الأمبودسمان" Ombudsman بدأ في السويد، في القرن التاسع عشر، كرقيب على أداء السلطات، ولإنصاف المواطنين المظلومين، فإنه انتقل، في ستينيات القرن الفائت، إلى الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام، ليصبح معمولاً به في أكثر من 40 دولة من دول العالم.

Ad

يعد "الأمبودسمان" جزءاً من إطار "التنظيم الذاتي" لمهنة الصحافة؛ أي أنه يندرج ضمن الجهود التي تبذلها المؤسسات الصحافية من أجل ضمان التزامها بالأسس المهنية والقواعد الأخلاقية اللازمة لحماية حقوق الجمهور والمصلحة العامة في آن.

يتيح "الأمبودسمان" لجمهور الصحافة الحق في الشكوى من ممارسة صحافية معينة، عبر إرسال الشكاوى والملاحظات لشخصه، ثم يقوم ببحث تلك الشكاوى، ويتخذ قرارات بشأنها، ويعلن تلك القرارات في الصحيفة ذاتها، ويلزمها بإجراءات معينة وفق منطق كل حالة؛ مثل التصحيح، أو نشر الرد، أو الاعتذار للجمهور في حال وقوع خطأ.

كانت إحدى جلسات هذا المؤتمر تحت عنوان "الحق في أن تُنسى"؛ وهي الجلسة التي تقاسم الحديث فيها عدد من الخبراء، الذين راحوا يعرضون تجاربهم مع الشكاوى المثيرة للجدل.

قال أحد المتحدثين إن واحدة من أعقد الشكاوى التي تلقاها على مدار حياته المهنية جاءت من شاب بريطاني تخرج حديثاً في إحدى الجامعات، وراح يبحث عن عمل، عبر التقدم بطلبات لشغل وظائف معلن عنها في أكثر من جهة.

ينقل المتحدث عن هذا الفتى قوله إنه "كان في المكان الخطأ والزمان الخطأ حين وقع حادث سرقة، حيث اشتُبه فيه، وألقي القبض عليه، وبعد التحقيق معه، ثبت أنه بريء، وأفرج عنه من دون توجيه أي اتهام أو لوم".

يشير المتحدث إلى أن هذا الفتى نسي تلك الحادثة تماماً، وراح يكمل حياته ويبحث عن عمل، دون أن يلتفت إلى أن بعض وسائل الإعلام البريطانية كانت قد نشرت اسمه باعتباره مشتبهاً فيه في هذا الحادث.

لكن معظم جهات العمل التي تقدم لها هذا الشاب كانت "تغوغل" اسمه عند فحص سيرته الذاتية، أي أنها تبحث عن المعلومات المنشورة عنه في "الإنترنت" عبر محرك البحث "غوغل".

ولسوء الحظ فقد كانت الروابط التي تشير إلى تورطه في هذا الحادث تظهر في المقدمة، لتعطي انطباعاً بأن هذا الشاب تورط سابقاً في حادث سرقة، حتى إن لم يكن هناك ما يشير إلى ثبوت الاتهام في حقه.

يقول المتحدث إنه توقف أمام تلك الحالة؛ لأنها أثارت سؤالاً جوهرياً، عما إذا كان من الإنصاف أن يُحذف الرابط، الذي يحمل اسم هذا الشاب، لكي يتسنى له أن يجد وظيفة مناسبة، ولا يدفع ثمن ظروف عارضة ألقت به في موضع الاشتباه، أم يجب عدم الاستجابة إلى ذلك الطلب، وبقاء الرابط كما هو دفاعاً عن حق القارئ في المعرفة، وعن وظيفة "التوثيق" في الصحافة؟

تلك معضلة أخلاقية ومهنية كبيرة نشأت بسبب استخدامنا "الإنترنت"، حيث يبحث البعض عن أسمائنا على محركات البحث، وفي بعض الأحيان تكون القصص والأخبار والمعلومات المنشورة غير دقيقة أو مشينة؛ فهل نملك الحق في طلب حذفها، وهل يمكن أن تستجيب وسائل الإعلام فتحذف هذه الروابط؟

بسبب هذه المعضلة نشأ مصطلح "الحق في أن تُنسى"، ومفاده أن بعض الروابط أو المواد التي تُبث على "الإنترنت" وتحمل صورنا أو معلومات عنا يمكن أن تسبب لنا المشكلات؛ وهو ما يدعونا إلى المطالبة بإزالتها، لممارسة حقنا في أن "نُنسى".

في الأسبوع الماضي، كان أحد أكثر الأخبار قراءة في وسائل الإعلام العالمية يتعلق بفتاة إيطالية تبلغ من العمر 31 عاماً، وتُدعى تيزيانا كانتوني، وقد دخلت الأخبار لأنها ببساطة انتحرت، هرباً من شعورها بالعار، لأن فيلماً إباحياً يعرض علاقة جنسية قامت بها تم بثه على "الإنترنت"، وشاهده أكثر من مليون شخص.

بحسب المعلومات التي نُشرت في صحف إيطالية كبرى فإن تيزيانا صورت شريطاً وهي تمارس علاقة جنسية مع أحد الشبان، ثم أرسلت هذا الشريط إلى صديقها السابق لإثارة غيرته؛ وهو الشريط الذي تسرب إلى "الإنترنت"، وتم نشره على نطاق واسع، وحصد مئات آلاف المشاهدات.

من سوء حظ تيزيانا أن الشريط أعجب الكثيرين، وراحوا يتداولون بعض العبارات التي جاءت على لسانها خلاله، حتى إن البعض طور رسوم "كوميكس" تضاهي مشاهد في الشريط، أو نقش تلك العبارات على قمصان وحقائب.

في غضون أيام قليلة كانت تيزيانا مجللة بالعار، فاضطرت إلى هجر بلدتها، وترك وظيفتها، وحاولت تغيير اسمها، قبل أن تلجأ إلى محكمة محلية؛ وهي المحكمة التي حكمت لها بـ"الحق في أن تُنسى"، وألزمت مزودي خدمات "الإنترنت" بحذف الشريط.

لكن قرار المحكمة جاء متأخراً، بعدما تمكن الشعور بالخزى من تيزيانا، ففضلت الانتحار، لتضيف بعداً آخر لجرائم "الإنترنت" وانتهاك الخصوصية.

لست مع أي قرار بحذف معلومة أو خبر أو مادة متسقة مع اعتبارات البث على "الإنترنت"، لأن هذه السياسة يمكن أن تطيح حق الجمهور في المعرفة، وتجعل الساحة مجالاً لتلاعب الساسة وسلطات الأمن وأصحاب السطوة، وتعيد هيكلة عالم "الشبكة" لمصلحة القوى الأكثر نفوذاً.

علينا أن نتدرب كصحافيين على التوثيق ومراعاة الدقة، والحذر الشديد عند نشر الأخبار التي تتعلق بالجرائم وأسماء المتهمين والمشتبه فيهم، الذين لم تثبت إدانتهم.

وعلينا كمستخدمي "إنترنت" أن نمارس أقصى درجات الحذر والحيطة، وأن نحرص على حماية خصوصيتنا، وهو ما يقلل احتمالات أن نطالب بحقنا في "أن نُنسى".

ميزة "الإنترنت" الكبيرة في انفتاحها ومحدودية قابليتها لتلقي الضغوط، فلا تحولوها إلى ميدان للتلاعب، لتصبح كما الصحف الرسمية والتلفزيونات الحكومية.

* كاتب مصري