بعد ما يربو على العقود الثلاثة، أكاد أكون متأكداً وأنا أقول؛ إن في الكتابةِ شيءٌ قدري. في الكتابة قدرٌ يأخذ صاحبها من كل شؤون الحياة ليضعه وجهاً لوجه أمام حياة الفكرِ والقراءة والكتابة. وفي المركز من ذلك يضعه أمام تأمل الواقع لفهم قوانينه وسلوك بشره. ومن ثم خلق حياة أخرى عبر التخييل والكتابة، تتخذ من الواقع جذراً لها، وتتوازى وتتقاطع معه. الكتابة حياة متخيلة لكنها حياة أقدر على صنع وتلوين مصائر أبطالها. ومن ثم إقناع القارئ بأنه يعيش تجربة حياة ما كان له أن يعيشها دون الكتابة والقراءة.

النظر إلى المؤلف الإنسان من الخارج شيء، والاقتراب منه ومعرفته شخصياً ومعايشة لحظاته شيء آخر مختلف تماماً. خيط رفيع يفصل بين حياة المؤلف الحقيقية وبين وجود صوته في الكتابة صريحاً كان أو مموهاً عبر صوت الراوي. بعض المؤلفين يمتلك شجاعة أن يكتب شيئاً من سيرة حياته الحقيقية باسمه الصريح. وبعض آخر، وهو يمثل الأكثرية الساحقة، يكتب شيئاً من نثار تجاربه في الحياة، مغلفة بصوت الراوي وبسلوك شخوصه. الراوي هو العصا التي يتوكأ عليها كل مؤلف لنقل آرائه وقناعاته ومشاعره عبر النص. وكم يبدو المؤلف متماهياً مع الراوي، خاصة إذا كان القارئ يعرف الكاتب.

Ad

أقرأ لبعض الزملاء فأسمع أصواتهم ببحتها وعلو نبرتها ولازماتها التي أحفظ. ولأنني أعرف مفرداتهم وأعرف أيضاً صياغة جملتهم، فأنا لا أستطيع التفريق بين صوت الراوي وبين نبرة صديقي الكاتب. وهنا يكمن ربما المأزق الأكبر بالنسبة لأي كاتب. كيف لأي كاتب أن يخلق مساحة محايدة بين صوته وبين صوت الراوي؟ وكيف يستطيع أي كاتب أن يخلق في كل رواية راوياً لا يشبهه؟ وكيف لأي مؤلف أن يقنع القارئ بأنه يقدم عبر عمله الجديد راوياً جديداً؟ وكيف يمكن لأي روائي أن يقدم نصاً روائياً متجدداً، في كل رواية؟ بعيداً عن السقوط في جملة تعوّد على قولها، وبعيداً عن مفردة انسحقت من كثرة استخدامها. مفردة تعرّف القارئ عليها عشرات المرات بين ثنايا كتابات المؤلف.

إن اعتياد الكتابة مطب كبير يجب على الكاتب أخذ الحيطة والحذر لكي لا يقع فيه. صحيح أن الكتابة اليومية تمرين حيوي لروح الكاتب. وهذا التمرين وحده هو ما يجعله يتملك لياقته العالية في الكتابة. لكن، المطب القاتل هو اعتياد نمطٍ واحد من الكتابة، ومفردة واحدة، وجملة واحدة، وراوٍ واحد يحضر في كل نص ليقول كل شيء في كل الأعمال وبالطريقة نفسها.

القارئ متطلب، يريد أعمالاً جديدة، وتجارب حياة جديدة. ولكي يساير الكاتب مطالب القارئ، عليه أن يكون متجدداً بفكره وقناعاته وأفكاره وأسلوب كتابته. الكاتب البرتغالي العبقري "خوزيه ساراماغو-José Saramago" (1922-2010) كتب معظم أعماله بتقنية واحدة. لكنه من العبقرية وسعة الاطلاع والإحاطة بعوالم أعماله، بحيث يسحر القارئ في كل مرة بقدرته على كتابة عالم جديد. وطرح فكرٍ متجدد، وصياغة رواية لا تشبه سابقتها. هذا هو ساراماغو، وليس كل كاتب هو هذا القارئ الكبير والكاتب العظيم. أكتب عن ساراماغو تحديداً، لأن القارئ يدرك أنه صاغ أعماله كلها بجملة واحدة. لكنها جملة العبقري التي تلبس في كل مرة ثوباً مختلفاً يسلب لب القارئ.

مسافات متباينة تفصل بين الإنسان والمؤلف والراوي. ووحده الكاتب معني بالوقوف عند الحدود الفاصلة بينها؛ بين حياته الشخصية بعالمه وعلاقاته الإنسانية. وبين كونه مؤلفاً يكتب عن تجارب حياته وحياة الآخرين والمجتمع. وبين صوت الراوي داخل أعماله الروائية. يكون نجاح الإنسان الكاتب باهراً حين يكون قادراً على تشييد الخطوط الفاصلة بينه وبين المؤلف وبينه وبين الراوي. وإلا عاش وقد أضاع المشيتين. فحين تريده إنساناً تجده مؤلفاً أو راوياً. وحين يفترض أن يكون راوياً تجده وقد تماهى مع نفسه!