حدثينا عن بدايات إيليا بيضا.ولد إيليا بيضا في منطقة المصيطبة في بيروت عام 1908، تلقى دروسه في الكلية البطريركية وكان مديرها المتروبوليت فيليبوس، وهو أول من اكتشف جمال صوته وكان يصطحبه معه لدى احتفاله بالذبيحة الإلهية لينشد التراتيل، وفي كل مرة كانت الكنيسة تعجّ بالمؤمنين الذين ينجذبون إلى صوته الشجي. هنا لا بد من الإشارة إلى أن إيليا بيضا بدأ حياته الفنية يدندن أغنيات في محلة الجناح في بيروت على ضوء الفوانيس التي كانت تضيء الشوارع في تلك الفترة.
كيف تعرّف إلى الموال البغدادي؟من خلال عمه فرج الله بيضا، وأجاده لدرجة أنه أصبح «ملك البغدادي» آنذاك، وطوره بمساعدة الشيخ أحمد الطرابلسي. بعد ذلك كيف سار على طريق الاحتراف الفني؟في مطلع شبابه وبعدما صار والفن صنوين لا ينفصلان، تعلم العزف على آلة العود على يد نقولا المني الذي كان يقيم في الحي نفسه مع إيليا بيضا، من ثم دخل إذاعة الشرق الأدنى عن طريق يحيى اللبابيدي في فلسطين، وفي إحدى المرات صادف أن سمع والد المطربة نجاح سلام صوته، فأعجب به وأدخله الإذاعة اللبنانية.أول أغنية له كانت «لا تنوحي يا حمامة» للشاعر حليم دموس، وسجلت أيام الفونوغراف، وكانوا يستأجرون منزل آل فرنيني في الأشرفية ويسجلون أسطواناتهم بحضور مهندس صوت ألماني، باعتبار أن الألمان كانوا يتقنون ذلك أكثر من العرب. بعدما ذاع صيته أرسلته الدولة اللبنانية بناء على طلب من الحكومة الإيطالية ليمثل الجالية اللبنانية هناك. فاصطحب نقولا المني كعازف عود، وتوفيق البرجاوي ككورس، ومحمد عبدالمطلب لتجويد القرآن، وإدوار قدحجي لعزف الكمان، واحيا حفلات هناك حققت نجاحاً باهراً.وكيف دخل الوسط الفني المصري؟لدى عودته من إيطاليا سافر إلى مصر، بناء على طلب من نجيب كرم لتسجيل أسطوانة «عندك بحرية يا ريس» التي كان سجلها إدمون الزعني، وسجنه على إثرها رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك بشارة الخوري لأن مطلعها كان يقول: «بدنا بحرية يا ريس بزنود قوية يا ريّس»، فما كان من إيليا إلا أن غيّر المطلع وأصبح «عندك بحرية يا ريس»، فنجحت الأسطوانة بشكل لا مثيل له، ودفع هذا النجاح الباهر الكاتب والشاعر وليام صعب إلى أن يكتب له مواويل كسحت آنذاك حتى أغاني عبد الوهاب ومنها: «يا ديرة العرب للمجد المضى عودي/ وللناس قولي أنا ما بينعجم عودي/ حسام العزايم حسامي وعودها عودي/ مالك ببحران صرتي ضايعة مالك/ مالك ونحنا إذا شمّع الدهب مالك». وكتب له موالاً آخر يقول فيه: «يا أهل الجزيرة زمان الفخر ماضينا/ عا صفحتو متل ماضي السهم ماضينا/ كنا نجرّ الأعادي بحدّ ماضينا/ حوّل شقانا يا رب الكائنات سعود/ واجمع فاروق مع فيصل وابن سعود/ واجمع جميع العرب وأهل البلاد سعود/ تا تضل الكائنة أعلام ماضينا». لكن لا نسمع هذه المواويل، فأين اختفت؟للأسف، لا أدري كيف اختفت هذه المواويل مع أنها فخر للعرب والعروبة، وهي ذات قيمة شعرية وموسيقية، يجب أن تتعرف إليها الأجيال الشابة بدل تلويث آذانها بأغنيات لا تمتّ إلى الفن الأصيل بصلة. هذه المواويل تعلم الشباب حب الأرض وتحفز المجتمعات العربية على التعايش مع بعضها البعض، ونحن اليوم بأمس الحاجة، وسط هذه المعمعة الغارق فيها العالم العربي، إلى كلمات تشد أزرنا وتذكي فينا الأصالة والنخوة واللحمة في وجه محاولات التفرقة والفتنة التي تعصف بنا.لإيليا بيضا علاقة صداقة مع الفيلسوف اللبناني مخائيل نعيمة، كيف بدأت؟بعدما استمع الفنانون الكبار إلى إيليا يشدو هذا الكلام الجميل والمواويل وأعجبوا بصوته المميز والفريد، أرسل الفيلسوف اللبناني ميخائيل نعيمة بطلبه، وطلب منه أن يغني من كلماته بيت عتابا يقول فيه: بدمي تخضبي يا ام العنابي/ حرام هجرتني ومنك عنا بي/ يا شغلي من بعدكن إشرس عنابي/ عض شواهدي ومزق تياب.
صداقات فنية وثنائيات
ماذا عن مرحلة سفره إلى أميركا؟في عمر 28 سنة، سافر إلى أميركا وهناك تزوج من ماري ابراهيم من أصل سوري ومواليد أميركا، والداها من ضيعة بملكي قرب طرطوس، وأسس شركة خاصة ماركة «العودان»، لكنه لم ينقطع عن زيارة بلده وزيارة مصر حيث كان له أصدقاء كثر من كبار الشعراء والملحنين والمطربين. وفي أكثر من مرة استضافه رشاد البيبي في برنامج الهواة على شاشة تلفزيون لبنان، لكن لا أدري لماذا يهمل الأخير أرشيف إيليا بيضا. حرام أن يندثر هذا الأرشيف وتبقى التفاهات لأولادنا. نحن نفخر بالأصالة، كما نفخر بأعمدة بعلبك التي ترمز إلى الشموخ، ونرفض محاولات تسطيح الفن وجعله سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب. ما أبرز أعماله ومن كان يتردد إليه من الفنانين؟من الأغاني التي حققت نجاحاً كبيراً «يا ويل اللي ما يخاف ربو» من ألحان سامي الصيداوي، «يا ريتني طير لطير حواليك» في ثلاثينيات القرن العشرين للشاعر والملحن يحيى اللبابيدي، وأُعيد تسجيلها عام 1937 بصوت الموسيقار فريد الأطرش وكانت سبباً في شهرته. كذلك سجّل أسطوانات في شركة «بيضافون» (قصيدة «عذّبيني فمهجتي في يديك»، وموّال قوامك الغصن... )، وكان عمل قبل سفره إلى أميركا في محطّة الإذاعة المصرية، وفي محطّة فلسطين، وراديو الشرق. ومن المقربين إليه: زكي ناصيف، فيلمون وهبي، سامي الصيداوي، نزهة يونس وشقيقتها هيام يونس، توفيق الباشا... هؤلاء وغيرهم من الملحنين والشعراء كان يغصّ بهم منزله ما إن يعود إلى لبنان.مثّل إيليا بيضا لبنان في مؤتمر الموسيقى العربية عام 1934، فإلى أي مدى أثر هذا الحضور في تعميق ثقافته الفنية واتساع شهرته في أوساط المثقفين في مصر، والعالم العربي عموماً؟بالفعل، التأم مؤتمر الموسيقى العربية الأول في ربيع عام 1934، مثّل مصر: الشيخ زكريا أحمد ومحمد القصبجي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وصالح عبدالحي. ومثّل العراق: محمد القبنجي ويوسف عمر وعفيفة اسكندر. ومثّل لبنان: إيليا بيضا وإيليا ربيز والشاعر بشارة عبدالله الخوري (الأخطل الصغير). ماذا عن الثنائيات التي سجلها مع كل من لور دكاش ونجاح سلام؟غنت لور دكاش مع إيليا بيضا، محاورة «ويل حالي يا ويلي» (1931)، وسُجلت هذه المحاورة في أميركا، كذلك غنت «دويتو» مع وديع الصافي سجل في البرازيل. أما لماذا اعتماد التسجيل في أميركا والبرازيل فكي تنتشر الأغاني بشكل أوسع في أوساط المغتربين. كذلك اكتشف إيليا بيضا صوت نجاح سلام ونصح والدها بتشجيعها على الغناء، وكان والدها يحبه كثيراً ويحضر حفلاته، هكذا نشأت صداقة قوية بينهما. وما كان آخر ما غناهآخر دعاء سجله بصوته بعد زيارته لبنان للمرة الأخيرة عام 1977، وهو لمحمد طرابلسي: «يا رب هيئ لنا من أمرنا رشدا.إطار
من أبرز أغنيات إيليا بيضا: «صبي يا دنيا، يا معشر الناس، بالغدر مديت، موال الخضر، كام نوب، حار أمري في هواكم، فراق الحبايب، عتابا وميجانا، غرام ليلي، مش قادر حبك إنسى، يا من بوعد الوفا، يا فاتن الألحاظ، يا أجمل الناس، يا قاعدة ع العين، يابو الجدايل، يا ميجانا، كان لي غزال، جيت أنشد الطير، من يوم فرقك، لحظك عليا، ليلي مشعشع، حكينا بالوما، وحياة عيسي والخضر، يا مفرقين المنازل، يا جبهة العرب، ياغزيل، يا من بوعد الوفا، شعرك علي مراي الكواكب، يا ناس مالي، ياهل العروبة، يا موشحة بالحلي، يا غازي الأرواح، ع مورد الغزلان، يا هاجرين الوطن، يا حمام، ياللي هجرت الحبايب، يا غادية ع العين، لطفك أسرني، هجرك نحرني، لما قطفتلي من ورودك قمر، ياللي وافي، لولا الهوى، الليل يصفا، يا مرابع المجد، ياللي سيوفك بجروحي، ليلي خايف فؤادك، يا عاشق الهجران».