لم يكن النفساني الشهير جاك لاكان في مناهضته لاستخدام جهاز كشف الكذب، في بدايات اعتماده من قبل السلطات الحكومية أداة لانتزاع الحقيقة، مجافياً للمبادئ والقيم الأخلاقية. فقد ذهب خليفة سيغموند فرويد إلى أن هذه العملية تشكل في معناها العميق انتهاكاً لخصوصية الفرد، ذاك أنها تعتدي على خصوصية أفكاره وذاكرته وتستولي عليها. وهذا الأمر يرتبط في أكثر من ملمح بسعي الجهات الرسمية في الكويت إلى اعتماد اختبار الحمض النووي بغية سبر هوية الأفراد. بيد أن المرء، قبل الحديث عن ذلك، لا يملك إلا أن يبدي الدهشة والضيق من مرور أمر كهذا وغيره من الأمور دون تفاعل أو إسهامات من قبل المختصين والأكاديميين المنتمين إلى علوم الأخلاق والاجتماع وبقية حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، وليس هذا تفصيلاً عارضاً بقدر ما هو علامة على حالة البوار أو اليباب الثقافي التي نعيشها منذ أمد طويل.والحال أن الحديث في هذا الشأن يقتضي أولاً النظر في الطريقة التي نتعامل بها مع ما يتحفنا به العلم الحديث من مكتشفات وابتكارات طبية متسارعة تقودنا إلى فضاء أخلاقي غير مألوف وغريب علينا تماماً. وفي الوقت الذي برهن فيه الكثير من أهلنا على سوء توظيفهم لمنجزات العلم وبطريقة تتأرجح بين الجهل والبذاءة، على النحو الذي نراه في كيفية استخدامهم لوسائل الاتصال الاجتماعي، ليس هناك ما يشجعنا على الاعتقاد بأن سلوكياتهم ستغدو مختلفة مع مكتشفات العلوم الطبية والحيوية.
هكذا تتبدى مناقشة وتداول الجوانب الأخلاقية لاستخدام منجزات علمية فائقة التعقيد على قدر كبير من الأهمية. ومن ثم صياغة أسئلة تقارب الأساس الأخلاقي الذي تنهض عليه فكرة استخدام اختبار الحمض النووي. فهل فكرة انتهاك خصوصية الفرد وتاريخه مبررة أخلاقياً؟ وقبل ذاك هل هناك إجماع على اعتماد وتعميم مكتشفات العلم الحديث لتحسين مستوى حياتنا؟ لا أظن أن هناك مساحة كبيرة من التفاؤل في نوعية الإجابات التي تستولدها أسئلة من هذا الطراز. بل إن مجرد التفكير فيها لدى شرائح كثيرة من البشر يجعلهم ينكفئون عن الرهان على عظمة العلم.وفي الوقت الذي تتجاوز فيه مكتشفات العلم الحديث نفسها باطراد، فإننا ننتهي إما إلى الهروب الفاضل من دنس العلوم الدنيوية أو إلى الانتقائية التي تحتكر استخدام منجزات العلم وتصبغها بأهداف سياسية، فلا يعود العلم علماً. فهل سيقبل مؤيدو الفحص النووي تطبيق كشف علمي جديد يسمى اختصاراً "أي في أف"، والذي يستخدم فيه الحمض النووي لثلاثة أشخاص مختلفين من أجل الحيلولة دون انتقال أمراض وراثية معدية إلى الأطفال، وهو إجراء من شأنه أن يجنب الأطفال المعاناة الأبدية، ويمنحهم حياة طبيعية كأقرانهم الأصحاء؟ولكن فكرة استخدام حمض نووي من ثلاثة أشخاص ستجعل للطفل – على المستوى الجيني – ثلاثة آباء، وليس ذلك هو التحدي الأخلاقي الوحيد، فاعتماد هذا الإجراء وغيره من المكتشفات الطبية من شأنه تغيير مفهوم العائلة وإزاحته من المستوى البيولوجي إلى مستوى الكيان الاجتماعي، وغني عن القول أن تلك المنجزات مقارنة بطريقة توظيفنا لاختبار الحمض النووي تشي بأن علاقتنا بالعالم المعاصر والحداثة كلها صفحات طويت!
مقالات
إنسانيتنا والبوار الثقافي
25-09-2016