تغوص مونودراما (حكي قبور)، في قصص الموتى لتعري واقع الأحياء. يروي حارس المقبرة (أبو عيسى)، سير أناس رحلوا عن عالمنا بتواريخ تبدو عشوائية، لكنها منتقاة لتروي سيرة بلاد ومدن نهشتها الحروب والانقسامات والبشاعة، في محطات فاصلة تعود إلى السبعينيات والثمانينيات، وصولاً إلى الواقع اليوم.

يحكي (أبو عيسى) مع أصدقائه الأموات الذين يحرس قبورهم وكأنه يحكي مع أحياء. يلومهم، يغني لهم، أو يستمع إلى شكواهم. يروي سيرهم، ويقول إنهم سمحوا له بذلك كي نتعلم من تجاربهم وربما من مآسيهم. وخلال ذلك كله يبوح الحارس بمكنونات قلبه ومفردات حنانه تجاه ابنه الوحيد (عيسى) فيحكي طفولة هذا الابن وتعلقه وزوجته به.

Ad

بين حلب ومصر والعراق وفلسطين وباقي البلدان التي تشهد مسلسلات قتل يومية، تتنقل حكايات أبي عيسى، من الفتاة التي قتلت في ميدان التحرير، إلى الفلسطيني الغزاوي الذي قتل بشظية قذيفة إسرائيلية، ثم الفتاة السورية التي خُطفت وعُذبت وقتلت بوحشية، فمآسي العراق اليومية، كلها مشاهد يستعرضها أبو عيسى كأنها فيلم طويل لا نهاية له، وكأنه نصّب نفسه حارساً على الأحياء أيضاً، يدقّ ناقوس الخطر ليعوا ويتعظوا كي لا يصيبهم ما أصاب هؤلاء الموتى... لكنه يدرك تماماً في يقينه أن الأحياء لن يتعظوا وأن الحروب التي تنهش هذه المنطقة من العالم لن تتوقف طالما أن أبناءها لم يستمعوا مرة إلى التاريخ وإلى مواعظه. من هنا تبدو نبرة الأسى واضحة في أدائه، ليقينه بأن أنهار الدماء لن تتوقف.

تراجيديا خالصة

أراد المخرج أحمد العربي خميس اللعب على حافة الكوميديا القاتمة، ونجح وفواز البسومي في انتزاع الضحكات من جمهور العرض، لكن المشهد الأخير في المسرحية أعطى هذا العمل صفة التراجيديا الخالصة.

لم يعد (أبو عيسى) حارساً، لقد أصيب بالجنون بعدما فقد ولده الوحيد في حادث مأساوي قبل تخرجه في كلية الهندسة بأشهر قليلة، لذا يقصد المقابر كل ليلة ليوهم نفسه بأن ابنه المدفون في المقبرة نفسها ما زال حياً وأنه ما زال الحارس (أبا عيسى).

أداء متقن

يصعب على مسرح المونودراما استقطاب انتباه الجمهور طوال فترة العرض، ما لم يكن الممثل مسيطراً على خشبة المسرح ومتمكناً من أدائه ويعيش الدور بأبعاده النفسية والمسرحية كلها، إلا أن فواز البسومي جذب الانتباه طيلة فترة العرض بأدائه المتقن وتناغم حركة جسمه مع تعابير وجهه، فأضحى جزءاً من كل مأساة يرويها، وباتت خشبة المسرح جزءاً من تلك الأراضي التي تتكرر فيها فصول من حروب عبثية وتنوء تحت غبار الأسلحة الفتاكة والتفنن في القتل والدمار...