دخول «البنزين» في عهدة التسويات السياسية يكشف وهم الإصلاح
التعويضات النقدية والعينية تخلق سوقاً سوداء وترفع مستوى التضخم وتخفض مستوى العمالة الوافدة
خطورة وجود سعرين لسلعة أساسية في بلد كالكويت لا تنحصر في جانب التضخم والسوق السوداء، بل تمتد إلى خلق بيئة طاردة لأي عمالة وافدة مهنية ومدربة، وبالتالي يقبل سوق العمل المحلي العمالة الأقل كفاءة وتترتب عليها خدمات أقل ومشاكل أكثر.
دخلت قضية رفع أسعار البنزين في ملف التسويات السياسية، بعد أن رشحت معلومات عن قرب توصل مجلسي الأمة والوزراء إلى "صفقة" يتم بموجبها منح المواطنين تعويضات نقدية أو عينية، في صورة كوبونات، لتلافي الضغط الشعبي الرافض للزيادة منذ اليوم الأول لإقرارها.وبغض النظر عن جدوى التعويض المالي أو العيني، فإن إدخال ملفات فنية في عمليات التسوية السياسية يشير إلى ان الحديث الحكومي الرسمي عن الاصلاح الاقتصادي وعلاج اختلالات الميزانية العامة للدولة يمكن أن يخضع في أي وقت لمساومات أو صفقات تزيد من انحراف القرارات الفنية، فضلا عن أنه يعطي انطباعا عن عدم ايمان متخذ القرار بكل الدراسات والتوصيات التي يتبناها، ما دام يمكن أن تكون مجرد أداة لتسويات لا علاقة لها بالاقتصاد.
مسمار جديد
فبعد 3 سنوات من الخطاب الحكومي الاقتصادي -رغم كل الملاحظات عليه- جاءت الحسابات السياسية في مقدمة أولويات مجلسي الأمة والوزراء، مع قرب الانتخابات التشريعية وإمكانية تقريب موعدها وفقا لمصالح معينة، ليشكل ذلك مسماراً جديداً في نعش الاصلاح الاقتصادي، فعندما اتخذ مجلس الوزراء قرار رفع أسعار البنزين استند إلى ان الزيادة جاءت بعد دراسة للسوق ولحاجة الاقتصاد، وبالتالي فإن التراجع عن القرار يعني أن الدراسات التي تعتمد عليها الحكومة غير ذات معنى، وأنها لم تدرس السوق كما ينبغي، الأمر الذي يترتب عليه شك دائم في أي مشروع اقتصادي مستقبلي، خصوصا ان البنزين يعد اصغر مشاريع الحكومة لإصلاح النظام المالي أو الاقتصادي -من وجهة نظرها- وهو أمر يجعل مشاريعها الكبرى الواردة في وثيقة الإصلاح الاقتصادي عرضة للتفكيك، فضلا عن الجرعات السياسية التي تشوه أي قرار اقتصادي إو اداري.قرار رفع أسعار البنزين من الاساس يحتوي على مجموعة من الملاحظات، أبرزها انه يسجل انحرافا عن الاصلاح الحقيقي واقرب الى الجباية، كما انه يمثل اقل بنود الميزانية كلفة، ويشير في اعتماده منفردا بمعزل عن القرارات الاخرى الى عجز عن خلق اصلاح اقتصادي شامل، لكن العبث فيه وخلق سوقين لأسعاره سيكونان اكثر سوءا من اقرار رفع البنزين نفسه، لان هناك استحقاقات تضخمية ومعيشية وسكانية سوف يكون لها انعكاسها في السوق، فضلا عن خلق فاتورة جديدة ستتضاعف مع السنوات بما يجعلها عبئا على الميزانية.إيران وإندونيسيا
وعلى الصعيد الفني المتعلق بجدوى التعويض النقدي مثلما تقوم به دول كإيران واندونيسيا فرغم كونه حلا مقبولا من الناحية النظرية فإنه يلعب دورا سلبيا في اتجاه رفع الضغوط التضخمية في الدول التي طبقته، اذ يصل التضخم في ايران بحدود 15 في المئة، وفي اندونيسيا التي حررت اسعار الوقود عام 2013 الى 9 في المئة، بعد ان كان التضخم لا يتجاوز قبلها 6 في المئة، وتعزي البيانات الاقتصادية في الدولتين نمو التضخم في الاساس الى رفع اسعار الوقود رغم التعويضات النقدية!أما فيما يتعلق بالدول التي تمنح تعويضات عينية على شكل كوبونات مثل ماليزيا والبرازيل والدومينيكان، فإن الضغوط التضخمية فيها اقل رغم تصاعدها منذ اقرار الكوبونات التعويضية، فماليزيا لا تتجاوز نسبة التضخم فيها 4 في المئة والبرازيل لعوامل متعددة 10 في المئة والدومينيكان لا تتعدى 2 في المئة، لكن هذه الدول لا يقاس عليها محليا لأن نسبة المواطنين المستفيدين من الكوبونات التعويضية مقارنة بعدد السكان فيها تتجاوز 85 في المئة، مقارنة بنسبة مواطنين تبلغ 31 في المئة فقط من السكان في الكويت، بمعنى ان فرصة نشوء سوق سوداء للبنزين في الكويت تبدو مرتفعة حال اقرار فكرة الكوبونات، لأن عدد غير المستفدين منها يتجاوز ضعفي المستفيدين في السوق.خطورة وتعقيدات
خطورة وجود سعرين لسلعة أساسية في بلد كالكويت لا تنحصر فقط في جانب التضخم والسوق السوداء، بل تمتد لخلق بيئة طاردة لأي عمالة وافدة مهنية ومدربة، وبالتالي يقبل سوق العمل المحلي بالعمالة الاقل كفاءة وتترتب عليها خدمات اقل ومشاكل اكثر.ناهيك عن التعقيدات الخاصة بصعوبة تحقيق العدالة بين المواطنين حسب مناطق السكن، مقارنة بموقع العمل، الى جانب كيفية توجيه الدعم وفقا لعدد السيارات او نوعية استهلاكها، مع الاخذ بعين الاعتبار ما نشرته "الجريدة" سابقا عن وجود اكثر من 568 ألف رخصة قيادة سارية يحملها كويتيون حسب احصاء الادارة العامة للمرور، وبالتالي إذا ما منح كل قائد مركبة دعما نقديا او عينيا لا يقل عن 20 دينارا شهريا فإننا سنخلق فاتورة دعم جديدة تبلغ 136 مليون دينار سنويا، وهو مبلغ قابل للزيادة مع منح 20 ألف رخصة قيادة جديدة سنويا، بمعنى أن العائد من وفر رفع اسعار البنزين حسب احصاء وزارة المالية البالغ 120 الى 140 مليون دينار سنويا سيعاد انفاقه على التعويضات النقدية والعينية للمواطنين، فلا تتحقق فائدة مالية رغم كل الاضرار الاقتصادية!أين الأرقام
احد اهم مشكلات القرار الاقتصادي انه يصدر بلا ارقام أو بيانات تبين الجدوى المرجوة منه، خصوصا اذا كان خاضعا للمساومات السياسية التي يبدو انها هذه الايام تتصدر كل الاولويات، بما فيها أوهام الاصلاح الاقتصادي.