الإصلاح المجهَض في 77
مصر في حاجة إلى الإصلاح الاقتصادي، لكن تلك العملية يجب أن تدار بشكل علمي ممنهج، مع الاستفادة من أخطاء تجربة 77، على أن يشترك المصريون جميعاً في القرار، وبهذا وحده تنجح عملية الإصلاح.
"أول محاولة للإصلاح الحقيقي كانت عام 1977"، هذا ما قاله الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الشهر الماضي، عندما تحدث عن الأوضاع الاقتصادية، أثناء افتتاحه أحد أكبر مجمعات البتروكيماويات في مصر والشرق الأوسط بمحافظة الإسكندرية، ويعد هذا أول تقدير وتقييم للمحاولة الإصلاحية في ذلك الوقت، والتي تم التراجع عنها، ولا يذكر الناس منها إلا ما عرف باسم "انتفاضة الخبز"، أو "انتفاضة الحرامية".وأذكر أنني منذ ثلاث سنوات تقريباً، وخلال لقائي أحد كبار المسؤولين المصريين وقتئذٍ، والذي أصبح الآن في موضع مسؤولية أعلى، تحدثت معه، ودعوته إلى ضرورة أن تدرس الحكومة الحالية ما حدث في يناير 77، عندما رفعت الحكومة الأسعار، وكيف رفعتها؟ وكيف تواصلت الدولة مع الجماهير؟ وكيف كان رد الفعل؟ وطالبت بأن تتم دراسة الحالة لتجنب تكرار رد الفعل في حال لجوء مصر إلى أية إصلاحات اقتصادية صعبة مقبلة، وأن تكون هناك سياسة مالية جديدة، مع دراسة الوضع النقدي، وتأثير ذلك على الأسعار، ومعرفة رد الفعل المتوقع أمنياً وسياسياً واقتصادياً، ووضع الخطة المناسبة للتعامل مع الموقف، ومرة أخرى دراسة كيفية التواصل مع الجماهير لكسب القطاع الأكبر منها، وجعله إن لم يكن داعماً، فعلى الأقل متفهماً للإصلاحات التي تحدث.لكن ماذا حدث عام 1977؟ كانت مصر خارجة من الحرب منهكة اقتصادياً، وكانت هناك رغبة في محاولة إصلاح حقيقية، وفي إحدى جلسات مجلس الوزراء تحدث الدكتور عبد المنعم القيسوني رئيس المجموعة الاقتصادية عن ضرورة رفع الدعم عن بعض السلع، استجابةً لقرار من البنك الدولي بعدم إقراضنا 200 مليون جنيه ما لم يتم رفع الدعم. وقال القيسوني: "إن المركب تميل الآن من الناحية الاقتصادية ويمكن أن تغرق ولا مهرب من اتخاذ القرار"، وحدد السلع التي يقترح رفع الدعم عنها ومنها سلع تموينية، وقال إن المشكلة ذاتها تتكرر مع الدول العربية بعد أن قررت عدم دفع أية مساعدات إلا بعد استشارة خبراء من البنك الدولي. واعترضت الدكتورة عائشة راتب وزيرة الشؤون الاجتماعية، بينما قال سيد فهمي وزير الداخلية إن الوزارة جاءت لكي تثبت الأسعار، فكيف يفاجأ الناس بعد شهرين برفعها، وقال إن هذا يؤثر على الوضع الأمني.
بعد ذلك عقد السادات اجتماعاً، تحدث فيه الدكتور حامد السايح وزير الاقتصاد والاستثمارات، وقال إن رفع الأسعار إجراء لا مهرب منه، وهو لازم اليوم قبل الغد، وأي تأخير في رفع الأسعار يمكن أن يعرض البلاد لكارثة اقتصادية، وقال السادات: إذا كان هذا هو الرأي الفني، وإذا كان التأخير يعرضنا لكارثة، فإنني موافق، لكن ممدوح سالم رئيس مجلس الوزراء، عقد اجتماعاً بصفته رئيسا لحزب مصر (الحزب الحاكم)، مع أعضاء الهيئة البرلمانية للحزب، شرح لهم الموقف، وفي يوم 13 يناير أعلن القرارات الاقتصادية في مجلس الشعب، وإذا بأعضاء حزب مصر يهاجمون قراراته، وفسر رد فعلهم بأنهم فضلوا خطبة ود الرأي العام والناخبين في دوائرهم الانتخابية على الالتزام الحزبي، وتطور الأمر بعد ذلك إلى مظاهرات يناير، والتي أعقبها تراجع السادات عن تلك القرارات.هذا ما حدث عام 77، عندما كانت هناك نية لمحاولة الإصلاح الحقيقي، وهنا نعود إلى نفس النقطة، مع أول اعتراف من رأس الدولة بأهمية الإصلاحات الاقتصادية التي تمت عام 1977، وهو إدراك لكيفية إدارة عملية الإصلاح، وما هي الإجراءات التي يجب أن تستبق الإصلاحات، والإجراءات التي يجب أن توازيها والإجراءات التي يجب أن تليها، وأشير هنا إلى ما حدث من أعضاء مجلس الشعب، وأعضاء الحزب الحاكم، الذين تخلوا عن مسؤوليتهم السياسية وقتئذ ورفضوا أن يقفوا مع الحكومة في قضية رفع الأسعار. تراجع السادات حينئذٍ، إثر المظاهرات الشهيرة في ذلك الوقت، وعلى الرغم من أن ذلك من الممكن أن يفسره البعض بأنه هزيمة سياسية، لكنه كان قراراً صحيحاً، وعلى الرغم من أن السادات ظل يردد أنها "انتفاضة حرامية"، إلا أن المقربين منه قالوا إنه كان يدرك أنها مظاهرات ضد رفع الأسعار المفاجئ، وأن سببها الحقيقي هو الأسلوب الخاطئ في إدارة قضية الإصلاحات الاقتصادية، وتوصيلها للجماهير.وبرأت المحكمة المتهمين في تلك القضية عام 1981، وقالت في حيثيات حكمها إن "الذي لا شك فيه وتؤمن به المحكمة واطمأن إليه ضميرها ووجدانها أن تلك الأحداث الجسام التي وقعت يومي 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار، فهي متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة، والنتيجة بالأسباب، ولا يمكن في مجال العقل والمنطق أن ترد تلك الأحداث إلى سبب آخر غير تلك القرارات، فلقد صدرت على حين غرة وعلى غير توقع من أحد، وفؤجئ بها الناس جميعاً، بمن فيهم رجال الأمن، فكيف يمكن في حكم العقل أن يستطيع أحد أن يتنبأ بها ثم يضع خطة لاستغلالها، ثم ينزل إلى الشارع للناس محرضاً ومهيجاً".القرار الاقتصادي الذي اتخذ عام 77 كان صحيحاً، لكن التعامل معه كان خاطئاً، وهو ما أدى إلى نتيجة عكسية، وجعله يشكل هاجساً وتخوفاً مستمراَ لدى رؤساء مصر التاليين، ولدى جميع المسؤولين بعد ذلك، في التعامل مع قضية الإصلاح السياسي بشكل جاد وواضح، لأنه دائماً كان ما حدث في 18 و19 يناير في ذهن كل مسؤول.اعتراف الرئيس السيسي بأهمية إجراءات حكومة 77، يدفع لأهمية التعامل مع الملف بشكل مختلف، والاستفادة من الأخطاء التي وقعت عندئذٍ، وأهمها مفاجأة الجماهير برفع الأسعار، وعدم إشراكهم في القرار السياسي.مصر في حاجة إلى الإصلاح الاقتصادي، لكن تلك العملية يجب أن تدار بشكل علمي ممنهج، وأن نستفيد من أخطاء تجربة 77، وأن يشترك المصريون جميعاً في القرار، وبهذا وحده تنجح عملية الإصلاح.
القرار الاقتصادي لمصر عام 1977 كان صحيحاً لكن التعامل معه كان خاطئاً وهو ما أدى إلى نتيجة عكسية