يقول مثل شعبي يمني ذائع: "جني نعرفه، ولا إنسي ما نعرفوش"، في إشارة إلى ضرورة التحفظ حيال الخيارات الجديدة، التي يمكن أن تقود إلى المجهول، والدعوة إلى تقبل الأوضاع القائمة، التي نعرفها جيداً، حتى لو كانت تنطوي على عيوب ومخاطر.

وقد دخل هذا المثل إلى ساحة العمل السياسي اليمني بقوة عشية الانتخابات الرئاسية، التي جرت في عام 2006، حيث كان يتنافس في تلك الانتخابات الرئيس السابق علي عبد الله صالح من جانب، ومرشح أحزاب اللقاء المشترك المعارضة فيصل بن شملان من جانب آخر.

Ad

ورغم أن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، رئيس البرلمان اليمني الأسبق، وزعيم حزب تجمع الإصلاح المعارض، كان على خلاف سياسي مع حليفه القديم علي عبدالله صالح، فإنه مع ذلك، فضّل أن يعطي صوته لهذا الأخير، باعتباره "الجني الذي يعرفه"، ويحجبه عن مرشح حزبه فيصل بن شملان، بوصفه "الإنسي الذي لم يكن قد عرفه بعد".

لقد تذكرت هذا المثل الآن، كما تذكرت السياق الذي استدعاه فيه الشيخ الأحمر، حين حاولت الإجابة عن السؤال الخاص بموقف دول الخليج العربية من المنافسة على رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، بين مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون ومرشح الجمهوريين دونالد ترامب.

لا يمكن بالطبع لغير المواطنين الأميركيين المسجلين في الكشوف الانتخابية الإدلاء بصوت في الانتخابات المنتظرة، ومع ذلك، فإن بعض الدول، والتكتلات، وجماعات المصالح سيمكنها أن تؤثر في مسار التصويت، عبر وسائل مختلفة، كما يحدث في معظم الدول الديمقراطية.

تبقى الولايات المتحدة إحدى أكثر دول العالم احتفاء بأدوار جماعات الضغط، وتأثراً بسطوة وسائل الإعلام، وحساسية لاستطلاعات الرأي، وانفتاحاً على الأدوار السياسية الأجنبية في مقاربة الشأن الداخلي، وهو الأمر الذي يعني إمكانية وجود تأثير للرؤى والمصالح الأجنبية في العمليات التنافسية، وإن كان هذا التأثير بطبيعة الحال محدوداً وهامشياً، بالنظر إلى قوة المؤسسات وكفاءة آليات المراقبة والمحاسبة.

ومع التسليم بوجود هذا الدور، والاعتراف بأنه يبقى محدود الأثر، يأتي التساؤل عن المرشح الذي يمكن أن تمنحه دول الخليج العربية صوتها بين المرشحين المتنافسين، وبلغة أوضح: من المرشح الذي ستبذل دول الخليج العربية جهودها لكي تعزز حظوظه، أو من المرشح الذي تتمنى تلك الدول أن يجلس في البيت الأبيض مع حلول نهاية العام الجاري؟

يبدو أن دول الخليج العربية ستكون مضطرة إلى أن تعيد ترديد المثل اليمني، الذي سبق أن ساقه الشيخ الأحمر؛ أي أن تتمنى فوز هيلاري، التي تمثل رؤية سياسية ومنظومة حكم أدت إلى تذبذب العلاقات بين الجانبين في أكثر من ملف من ملفات المنطقة الحيوية، ومعارضة ترامب، بصرف النظر عن إمكانية أن تكون رئاسته فرصة للخليجيين.

في الأسبوع الماضي، جرت المناظرة الأولى بين المرشحين المتنافسين، حيث بات واضحاً للكثيرين أن هيلاري، التي ارتكبت أخطاء كبيرة خلال وجودها في الإدارة، تمتلك المهارات والاتزان والقدرة اللازمة لممارسة القيادة، فيما ظهر ترامب في صورة الشخص غير المنضبط وغير المتوازن، والذي يمكن أن يتخذ قرارات تضر بالعلاقات الثنائية للولايات المتحدة.

لا يمكن توقع تغيرات كبيرة في سياسة هيلاري حيال دول الخليج العربية والمنطقة عموماً في حال تم انتخابها مقارنة بالسياسات التي تتخذها الإدارة الديمقراطية حالياً.

هناك تباين واضح بين هيلاري والإدارة بخصوص ملف التسلح ومدى استخدام القوة في المنطقة لحسم بعض الصراعات، ورغم ذلك فإن الاستراتيجيات الكبيرة تبدو محل اتفاق، وقد أعلن أوباما تأييده لانتخابها بأوضح العبارات عديد المرات.

ورغم إحباط الكونغرس الأميركي الأسبوع الماضي "الفيتو" الرئاسي ضد قانون "جاستا"، الذي يتيح لمواطنين أميركيين رفع قضايا ضد السعودية على خلفية دور مزعوم في هجمات 11 سبتمبر، فإن أوباما فعل كل ما بوسعه لعدم الإضرار بالعلاقات السعودية- الأميركية.

يعرف الخليجيون ذلك بطبيعة الحال، ولهذا فإن العلاقات بين الجانبين مضت رغم التباينات، خصوصاً في مجالات التعاون الأمني والعسكري، ومحاربة الإرهاب، والتبادل التجاري، والأهم من ذلك صفقات التسلح.

ثمة ثلاث وسائل يمكن من خلالها أن تقوم دول الخليج العربية بأدوار لمصلحة أحد المرشحين في هذه الانتخابات أو الحزب الذي يمثله.

تمتلك دول الخليج العربية مصالح إعلامية في المجال الأميركي، عبر شراكات وحصص في وسائل إعلام نافذة، كما يمكنها أن تشتري مساحات إعلانية، أو توظف جهود شركات علاقات عامة ودعاية ضخمة، من أجل تعزيز فرص مرشح بعينه.

هناك أيضاً نحو أربعة ملايين أميركي من أصول عربية وإسلامية، وهؤلاء غير منظمين تنظيماً جيداً، ومع ذلك، فإنهم يمثلون كتلة تصويتية، تمتلك دول الخليج العربية آليات للتأثير في خياراتها، عبر المراكز الدينية، والمساجد، والأنشطة التي ترعاها تلك البلدان، والتي يمكن من خلالها بث رسائل بعينها.

أما الوسيلة الثالثة التي يمكن أن تستخدمها دول الخليج العربية في هذا المحفل، فليست سوى المال السياسي، أو أموال التبرعات التي يمكن توجيهها لحملة بعينها.

وقد رصدت صحف أميركية رئيسة؛ منها "واشنطن بوست"، تدفق ملايين الدولارات من دول خليجية إلى الصندوق الخيري لعائلة كلينتون، وتم إحصاء تبرعات بملايين الدولارات من السعودية وعُمان وقطر لذلك الصندوق على مدى الأعوام الفائتة.

يتشدد القانون الأميركي في مسألة قبول حملات المرشحين للانتخابات العامة تبرعات من دول أجنبية، بغرض ضمان عدم تأثر القرار السياسي للمنتخبين لاحقاً بهوية المتبرعين ومصالحهم، ومع ذلك، فإن دولاً عديدة ومصالح أجنبية تتدخل باستمرار في مسار التنافس عبر ضخ الأموال، بطرق غير مباشرة؛ أهمها بطبيعة الحال التبرع لمشروعات خيرية.

دول الخليج العربية ستصوت لهيلاري، ليس لأن ترامب طالب السعودية بدفع "ثمن الحماية الأميركية" المزعومة لها، ولا لأنه يهدد بمنع دخول المسلمين، وليس لأن هيلاري ستحقق المصالح الخليجية على النحو المأمول، ولكن لأنه يمكن توقع ما ستفعله الإدارة الأميركية في حكم تلك الأخيرة، فيما لا يمكن أبداً التكهن بما قد يفعله الأول.

* كاتب مصري