بغداد علي بدر
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
لقد أعطى علي بدر للحب في فلسفة الخواجات عنصره الأرضي، حب الحياة ومسرات الأبيقوريين. لذا أبقى للخواجات وبغدادهم اللذاذة الحسية في العلاقة مع المرأة، الخمّارة، الطبيعة الغنية بالماء والثمر. وهنا استدعي رسالة أبي حيان، وبطلها أبا القاسم البغدادي، الذي أعطاه كل توقد حواسه، يريد أن يفرغ عبرها رغائبه الأرضية. تدفق نثره في تعداد محلات بغداد، وأنهارها، وأطعمتها، وفواكهها، وتمورها، وخماراتها، ومزة الشاربين فيها، وأزيائها وعطورها، ومغنياتها... هو تدفق موسيقي، لأنه يُخفي تحت غلالته حبا عجيبا لبغداد: "معشوقة السكنى... والغاية القصوى". علي بدر يلتقي أبا حيان في هذا التسامي الحسي لمدينتهم المعبودة: "الانتساب الفوري للعالم المحيط بنا، وفي المدينة التي نعيش فيها، قريبا من المزارعين النبط... وقريبا من الرعاة السريان... ومن رحم العمل الذي يؤديه بنّاء لحمّام، أو مهندس لقصر في حيّ من أحياء بغداد".لكن بغداد الخواجات هي مدينة التساميات الروحية والعقلية بالدرجة الأولى. وعلي بدر يوزع الزعامة الثلاثية للجماعة، "مثلث الحكمة"، على مهمات واضحة: "كان الخواجة يعقوب أقرب إلى تفضيل المعرفة البيانية، وكان الخواجة نور الدين أقرب إلى تفضيل المعرفة البرهانية، وكان الخواجة علاء الدين أقرب إلى تفضيل المعرفة العرفانية؛ وبين البيان والبرهان والعرفان كنا نلجُ - نحن طلاب مدرسة الحكمة - عالما جديدا من الأفكار. لقد أصبح هذا الفكر رؤيا وسحرا واختراقا وتوهجا ونفاذا إلى العالم النقي، وهو عالم الجمال الحقيقي. وهنا أستدعي "لعبة الكريات الزجاجية"، في تساميها الذي ينفرد به العقل وحده، سمة الفكر الألماني، كما يراه هيرمن هيسة. لذلك لم يجعل بطله "كنيشت" على انسجام مع تساميه في عالم "كستاليا" الفاضلة، الذي ينحو باتجاه التجريد الرياضي. بغداد علي بدر تتسع لكستاليا العقلية، ولنقيضتها الأرضية. فهي مدينة الجمال، الذي لا يستقيم إلا بأبعاده الثلاثة: الحسي، الروحي والعقلي. الخواجات لهم نساؤهم، يتعبّدون جمالهن، ولذاذة أجسادهن، ولهم فتنة العمارة والرسم (رسوم يحيى الواسطي لرسالة إخوان الصفا المفقودة عنصر مقدس داخل أحداث الرواية)، ثم قال: "ما دمتَ قد سرحتَ مع الفنان بوجدانك فيما وراء الزهرة المصورة، فلا سدود عندئذ، ولا حدود. بل ستظل غارقا في بحر الوجدان، حتى ينتهي بك آخر الأمر إلى اللامتناهي واللامحدود. إلى الحق الواحد الذي هو جوهر الوجود".هذه الرواية ليست عودة إلى التاريخ، بل محاولة لاستحضاره على هوى الوجدان العاشق. إن بغداد علي بدر، وبغداد التوحيدي، وبغدادي أنا، وبغداد كل مُقتَلع الجذر من تربتها، لابد أن تتسامى من الأرضي، إلى الروحي إلى العقلي، لكي تفي بحق شيء يسير من هذا الحب الذي يختلج في كياناتنا اليتيمة دونها.