بعد أقل من خمسين يوما سنعرف من سيكون الرئيس التالي للولايات المتحدة، ورغم تقدم المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في استطلاعات الرأي الوطنية، فقد ضاق الفارق إلى شبه التعادل، وهذا يعني أن منافسها الجمهوري دونالد ترامب ربما يفوز، والواقع أن المراقبين في الولايات المتحدة يدرسون الآن النتائج المحتملة لأول مئة يوم للرئيس ترامب في منصبه، وإن ما انتهوا إليه ليس جميلا.مع ترشح ترامب أصبح الواقع أبعد تصورا من الخيال، وما كان لأي كاتب سيناريو في هوليوود أن يتجرأ إلى الحد الذي يجعله يبتكر شخصية مرشح رئاسي- ناهيك عن رئيس فعلي- على هذا القدر من السَخَف الذي يتسم به ترامب. وبالمقارنة يبدو فرانك أندروود البطل الشرير المتآمر الذي يرتكب بالفعل جريمة قتل في النسخة الأميركية من المسلسل التلفزيوني "بيت من ورق"، والذي يجسد شخصيته كيفين سبيسي، أشبه بنوع ما من الهجين بين كانط ولينكولن.
يجسد ترامب شخصية موسوليني في تلفزيون الواقع الأميركي، فهو ليس مجرد سياسي شعبوي انعزالي؛ بل هو صورة كاريكاتورية لسياسي شعبوي انعزالي، وبانتخابه رئيسا للبلاد يحقق الناخبون الأميركيون ما لم يتمكن الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة أو الأصوليون الإسلاميون اليوم من الإتيان به: تقويض- وربما تدمير- النظام الديمقراطي الذي يحكم القوة الأعظم في العالم.ولنتأمل هنا الدعم الذي يقدمه لترامب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يمكننا اعتباره العدو الاستبدادي الأبرز للغرب، فنظرا لحرص ترامب على تحقير النموذج الديمقراطي الغربي، ينظر سيد الكرملين إلى ترشحه وكأنه هدية إلهية، ذلك أن انتخاب ترامب سيُعَد دليلا قاطعا على أن آلهة الاستبداد لم تتخل عن وكلائها الدنيويين برغم مرور أكثر من قرنين من النضال ضد روح التنوير التي تُعلي قيمة العقل والحرية.حتى لو لم يفز ترامب فإن مجرد تمكنه من الاقتراب إلى هذا الحد- وكونه لم يُرفَض بشدة كمرشح من قِبَل الناخبين في الولايات المتحدة، ناهيك عن مؤسسة الحزب الجمهوري بأسرها- لا يبشر بأي خير للقيم والمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطيات الغربية، ولكن من الواضح أن انتصار ترامب سيكون أشد تدميرا، وعندما نفترض ببساطة أن هذا السيناريو لن يحدث، وأنه أكثر سخافة وخطورة من أن نفكر فيه، فإن هذا لن يزيده إلا ترجيحا.ويُعَد التصويت في يونيو في المملكة المتحدة لمصلحة ترك الاتحاد الأوروبي مثالا حيا، ففي نهاية المطاف اتفق كل الخبراء على أن الخروج البريطاني من شأنه أن يخلف عواقب اقتصادية جسيمة، وشعر كثيرون من البريطانيين المؤيدين للاتحاد الأوروبي بالثقة في إخوانهم الناخبين، حتى إنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء الإدلاء بأصواتهم، ولكن من المؤسف أن الفوز كان لأنصار "الخروج"، الأمر الذي أشعل شرارة اضطرابات مالية واقتصادية وأدى إلى ارتفاع معدلات جرائم الكراهية. ويظل مستقبل المملكة المتحدة وأوروبا غير مؤكد.من القوى الدافعة وراء التصويت للخروج البريطاني الخوف والحنين الزائف، فقد وُعِد البريطانيون بالعودة إلى ماض مثالي من السلام والازدهار، عندما كانوا سادة مصايرهم، وقيل لهم إن قوى خارجية خبيثة- من المهاجرين إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي- كانت السبب وراء كل مشاكلهم. ومن جانبها كانت حملة "البقاء" مُثقَلة بالحقائق وتنقصها العاطفة.الواقع أن أوجه الشبه مع الحملة الرئاسية الحالية في الولايات المتحدة لافتة للنظر، فبينما تكافح هيلاري كلينتون لإلهام الناس يحرك ترامب أحط مشاعرهم.في حالة الأميركيين من ذوي البشرة البيضاء بشكل خاص- وفي مواجهة تطور القارة التي سيهيمن عليها في غضون أقل من ثلاثين عاما الناطقون باللغة الإسبانية- كان مزيج الخوف والحنين الذي حقنتهم به حملة ترامب أشبه بجرعة سحرية قوية. وليس من المستغرب أن يكون أداء ترامب طيبا بشكل خاص بين الرجال من ذوي البشرة البيضاء الذين لا يحملون شهادات جامعية، ورديئا نسبيا بين أولئك الذين يحملون ذكريات أقل إيجابية من الماضي: الأقليات والنساء.في كتابي الصادر عام 2009 بعنوان "الجغرافيا السياسية للعاطفة"، زعمت أنه في حين كان القرن العشرين قرن الأيديولوجية فإن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الهوية، ومن المؤسف أن التصويت للخروج البريطاني وترشح ترامب يثبتان صحة توقعاتي، فقد حلت سياسات الهوية- بما في ذلك قضايا السيادة والأمن- محل المخاوف الاقتصادية العقلانية باعتبارها المحرك الرئيس لاختيارات الناخبين، فالمرء على أي حال لا يحيا بالخبز وحده.من المؤكد أن عوامل اقتصادية تساهم في نشوء سياسات الهوية، فقد أضعفت فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع في الدخل والثروة الطبقة المتوسطة، ودفعت كثيرين إلى "الثورة" ضد النخب، وعلى حد تعبير الصحافي البريطاني مارتن وولف، لم يَعُد الانسجام قائما في نظر كثيرين بين الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية المعولمة، بل ربما تتعارض كل منهما مع الأخرى بشكل مباشر في حقيقة الأمر، والآن يبدو أن كثيرين يريدون هدم كل منهما.ولكن الموقف تصاعد إلى حد كبير، نظرا للتهديد الإرهابي الذي جرى تضخيمه إلى حد كبير، جنبا إلى جنب مع تأجيج المخاوف المتعلقة بالمهاجرين عموما، فربما يقتنع الناس بالعيش في فقر نسبي، إذا كان هذا يعني بقاءهم آمنين، ولكن في مواجهة احتمال الفقر وانعدام الأمن ينضم الخوف إلى الغضب في مزيج يطغى على العقل ويربكه.في مثل هذا السياق يصبح كل شيء ممكنا، ولو كان شيئا لا يمكن تصوره مثل رئاسة ترامب، ومن الواضح أن تمثيل هيلاري كلينتون للمؤسسة، في ظل ضعف شعبيتها لفترة طويلة وتصويرها من وسائل الإعلام التابعة للحزب الجمهوري باعتبارها امرأة عجوزا واهية، لا يساعد كثيرا.الواقع أن الأميركيين- ليس هم فقط- سيراقبون ما تبقى من الحملة بفضول المواطنين الرومان عندما كانوا يشاهدون معركة بين مصارعين، ولكننا لسنا في سيرك روماني، إذ يعتمد مستقبل الغرب، إن لم يكن مستقبل الديمقراطية، على أي المتسابقين سيظل واقفا عند نهاية السباق.* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، كبير مستشاري معهد مونتين في باريس.«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
ترامب ضد الغرب
03-10-2016