«آفة حارتنا النسيان» قالها الأديب الكبير نجيب محفوظ فيما برهنت تجربة فيلم «كلب بلدي» أن «آفة السينما المصرية النفس القصير». يبدأ الفيلم بفكرة طازجة تشي بالكثير، وتعكس طموحاً من دون حدود، وفجأة ينتهي كل هذا إلى شيء عبثي، وربما هزلي، وهو ما يعني إجهاض التجربة في مهدها، ويقودنا إلى يقين جازم بأن الأمر لم يكن سوى «دخان في الهواء» بل مجرد «أضغاث أحلام»!

مقدمة تنطبق بالضبط على فيلم «كلب بلدي»، الذي شارك في كتابته كل من شريف نجيب وأحمد فهمي، وكان يعد بالكثير، بسبب فكرته المثيرة التي تقوم على امرأة امتهنت السرقة، ولحظة القبض عليها فوجئت بآلام المخاض، فما كان منها سوى أن تركت طفلها الرضيع لابنها الذي هرب به ثم تركه في «خرابة»، والتقطته الكلبة «فريسكا» التي ربته وأرضعته مع أولادها الخمسة بعدما نظرت إليه بوصفه سادسهم، وفور مغادرة أمه السجن استردته ليعيش «نصف إنسان ونصف كلب»، لكن الكل لفظه، وعندما لجأ إلى شيخ الجامع ليبثه شكواه، ومأساته، حرض المصلين ضده فطردوه، وطاردوه!

Ad

بداية مثيرة لكن الفكرة الرائعة ظلت «محلك سر»، وعندما شاء أصحابها أن يطوروها أشبعوها سذاجة وسطحية، ومفارقات كوميدية منقوصة. البطل «روكي» (أحمد فهمي) الذي يملك قوى خارقة، كالشم والقنص والنهش بالمخالب، تسيطر عليه في حال استفزازه، لا يُظهر قدراته الخارقة سوى في مشاهد تُعد على أصابع اليد الواحدة، تبعاً لإرادة كاتبي السيناريو والمخرج معتز التوني أو حسب الإمكانات الإنتاجية المحدودة التي كبلت حركة وانطلاق ياسر النجار مصمم المؤثرات البصرية، وهو ما خصم من رصيد التجربة، التي اتسمت بالكلاسيكية، وانتهت إلى صراع تقليدي بين الخير والشر. فالضابط «بليغ» (أحمد فتحي في شخصية جديدة وثرية للغاية) يبتز «روكي» بجريمة قتل ارتكبها، وراح ضحيتها عبد الباسط حمودة، ويهدده ليساعده في القبض على رجل الأعمال الشرير «وردة» (أكرم حسني)، الذي يسعى إلى السيطرة على مصر، عبر طوابع مخدرة تُلصق على «قفا» المصريين، و{روكي» يخطب في «الكلاب» لينتفضوا ضد «وردة» ساكن القصر، ويوقفوا حال «السعار» الذي أصاب المصريين، وهي قراءة سياسية سأعود إليها مرة أخرى، وإن كنت سأترك الحكم عليها للقارئ وحده!

الطرافة التي لازمت التجربة، على صعيدي الحوار والمواقف، كمشهد الأم «كوكب» (دينا محسن) التي توصي ولديها «روكي» و{بومة» (حمدي الميرغني) بأن يتقوا الله في السرقة، وضرورة الحفاظ على روح الأسرة، ومشهد ظهور المغني الشعبي عبد الباسط حمودة بشخصيته الحقيقية، وتوظيف كلمات أغنيته الشهيرة «أنا مش عارفني» بدلاً من الحوار التقليدي، لم تدم طويلاً، لأسباب غامضة، لتحل مكانها التفاهة والسذاجة والسطحية، والاجتهادات الشخصية من الممثلين، مثلما فعل حمدي الميرغني، الذي يُضفي على أدواره وأفلامه الكثير، وأحمد فتحي، الذي أظهر جانباً جديداً من موهبته استثمر فيه المشاعر الإنسانية، ولم يكتف بموهبته الكوميدية، وهو ما فعله بيومي فؤاد رغم محدودية مساحته، والمبالغة التي صبغت أداءه وشخصيته، وتفوق محمد سلام في أداء شخصية «سنجاب» بينما اجتهدت ندا موسى في تجسيد شخصية «زبرجد» الطبيبة البيطرية التي أحبها «روكي»، وظهر أكرم حسني وأحمد فهمي بشكل باهت!

اللافت أن المخرج معتز التوني أظهر براعة فائقة في تنفيذ مشاهد انتفاضة الكلاب، كذلك الدب الذي امتلك جينات تامر حسني، ولم تهزمه وتقتله سوى أغنية وصورة عمرو دياب، بكل ما في المشهد من غلظة وسوء تقدير وإساءة. لكن المفارقات انقلبت في بعض المواقف إلى مبالغات، ووضح أن المخرج لجأ إلى السرعة، والخدعة، لإخفاء بعض أخطاء الحركة، أو ضعف اللياقة، فيما تكررت «الإسكتشات»، وتوظيف فن «البارودي» (السخرية من مسلسل مصطفى شعبان)، ومحاولة تحميل الفيلم كثير من الإسقاطات والإيحاءات، كالعمل على حشد «الكلاب» وتحريضهم للقيام بانتفاضة لرد الظلم الذي طاولهم: «لما كنا بنتسعر كان البني آدمين بيضربونا بالنار النهارده هم اللي اتسعروا لكن مش ح نضربهم بالنار لكن ح ننقذهم من بعض»، وتكريس شعار: «من النهارده مفيش حد ح يضرب على قفاه»، فالثورة مكتملة الأركان، والثوار اقتحموا القصر، والمواجهة حسمت الأمر: «كنت فاكر نفسك ح تسيطر على عقول المصريين؟»، وهي جمل حوار لا يمكن القول، مطلقاً، إنها اعتباطية أو عشوائية!

أخيراً تذكر كاتبا الفيلم الفكرة الرئيسة للفيلم، واختتما الأحداث بمشهد طريف يفاتح فيه «روكي» أمه الكلبة «فريسكا» بنية الزواج من «زبرجد»، وكأي أم محبة لابنها، وتتطلع إلى مثل هذا اليوم الذي يُزف فيه إلى عروسه، تنبش في بقعة ترابية، وتستخرج قطعة قماش تحوي بعض المجوهرات النفيسة، وتقدمها له كهدية الزواج. لكن العجيب، أن كل هذا لم يشفع لفيلم «كلب بلدي»، ويسهل مهمة تصنيفه، إذ لا يمكن القول إنه فيلم فانتازي ولا كوميدي ولا حركة!