إن تحديات الصحة العامة في الشرق الأوسط هائلة، ويتضح هذا بشكل خاص عندما نضع في الاعتبار سكان المنطقة العابرين من اللاجئين والعمال الزائرين، ففي الأردن ولبنان وتركيا أصبحت أعداد اللاجئين وحدهم بالملايين، وهو ما يُجهِد أجهزة الرعاية الصحية هناك إلى ما يقرب من نقطة الانهيار. وتُخطئ دول مجلس التعاون الخليجي الغنية إذا افترضت أنها مستثناة من مشاكل الصحة العامة في الدول المجاورة لها، ففي حين أدخلت دول مجلس التعاون الخليجي تحسينات كبرى على مجال الصحة الشخصية وصحة الأم والطفل، فإنها تُعَد المركز العالمي للأمراض المزمنة غير المعدية- مثل السمنة، وأمراض القلب، وعلى نحو متزايد السرطان- الناجمة عن نمط الحياة والنظام الغذائي.وما يزيد الطين بلة أن أجهزة الصحة الوطنية في دول مجلس التعاون الخليجي تعاني نقص الأطباء السريريين والمهنيين المدربين العاملين في خدمات الصحة العامة المحلية، ويُفضي هذا إلى ارتفاع إجمالي حركة العاملين نظرا للعمل الإضافي الشاق، والاحتياج المتزايد إلى العاملين في مجال الرعاية الصحية من الأجانب لشغل الوظائف التي تشتد الحاجة إليها. كان صناع السياسات في مجلس التعاون الخليجي محقين في التركيز على زيادة القدرة على الوصول إلى إعانات الدعم للرعاية الصحية المتميزة، ولكن التوزيع العادل لخدمات الرعاية الصحية على السكان من المواطنين والمهاجرين يشكل غالبا قضية سياسية شائكة، والآن يتعين على صناع السياسات أيضا تكريس المزيد من الاهتمام لقوة العمل في مجال الرعاية الصحية ذاتها، لضمان تعليمهم وتدريبهم على النحو اللائق للتصدي للتحديات التي تنتظر المنطقة.
الواقع أن برامج التدريب في أنظمة الرعاية الصحية الوطنية في دول مجلس التعاون الخليجي لا تركز بالقدر الكافي على الإبداع أو الأنظمة عندما تفكر في تحسين الكفاءة والفعالية، وإذا لم يحصل الأطباء السريريون والعاملون في مجال الرعاية الصحية على التدريب المتعدد التخصصات، فإنهم بهذا يصبحون غير مجهزين للتعرف على احتياجات الصحة العامة المحلية في المنطقة وتلبيتها، وعلى وجه التحديد يتطلب تحسين عملية تقديم الخدمات والرعاية أن تعمل دول مجلس التعاون الخليجي على وضع إطار سياسي جديد يغطي قطاعي التعليم والصحة العامة.لقد توسع التعليم العالي بسرعة في الشرق الأوسط على مدار العقد الماضي، فقد أنشأت الحكومات مناطق للتجارة الحرة التعليمية- مثل "قُرى المعرفة" في الإمارات العربية المتحدة، و"مدن التعليم" في قطر- واستثمرت مليارات الدولارات في جامعات جديدة والجامعات القائمة، كما هي الحال في المملكة العربية السعودية. ونتيجة لهذا اجتذبت الجامعات والمؤسسات البحثية والبرامج التعليمية الجديدة الباحثين وغيرهم من المهنيين إلى المنطقة.مع هذا، يسعى عدد ضئيل للغاية من الطلاب المحليين- وعدد ضئيل للغاية من الشباب- إلى الاشتغال بمهنة الصحة العامة، وفي حين يتزايد العدد الإجمالي للطلاب الذين يدرسون الصحة العامة، فإن أغلبهم يأتون من خارج المنطقة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم فرط الاعتماد على العمال الأجانب في دول مجلس التعاون الخليجي حاليا.لقد أولت العديد من الجامعات في المنطقة اهتماما خاصا للإبداع، وهو ما يبشر بالخير عندما يتعلق الأمر بتحسين خدمات الرعاية الصحية، ولكن برغم أن الصحة العامة تشكل تحديا إقليميا رئيسا، كانت الجامعات حتى الآن تركز بشكل أكبر كثيرا على مواضيع في المجالات الهندسية والتكنولوجية. في إطار تعليم الرعاية الصحية ذاته، وفقا لتحليلاتي الخاصة للمؤسسات المحلية، يتعلم الطلاب علاج حالات طبية فردية، ولكنهم لا يتعلمون ما يكفي عن قضايا الصحة العامة الأكبر، ولا تُعَرِّض المناهج الحالية الطلاب للقضايا التي تؤثر في اللاجئين أو المهاجرين أو السكان في عموم الأمر، ورغم أن مؤسسات مثل وايل كورنيل في قطر وجامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا في الكويت أطلقت برامج البحث والتدريب الإبداعية التي تركز على هذه الأنماط من التحديات الصحية، فإن الحاجة تظل قائمة إلى أكثر من هذا. وتتمثل مشكلة أخرى في حقيقة مفادها أن برامج التعليم والتدريب في المنطقة لا تشجع التفكير المنهجي بالقدر الكافي. وفي مختلف أنحاء العالم، تتحرك سياسة الصحة العامة نحو المزيد من التكامل المتعدد التخصصات بين الهندسة، والطب، والعلوم الاجتماعية والإدارية، والدراسات الإنسانية. ومن خلال عدم تبني نهج متكامل حتى الآن، تخاطر مؤسسات مجلس التعاون الخليجي بالتخلف عن المعيار العالمي.لا شك أن التكنولوجيا والأساليب الجديدة في التعامل مع الصحة العامة مهمة، ولكنها لن تكون فعّالة إذا لم تصمم خصوصا لتلبية الاحتياجات الحقيقية للسكان المحليين. ولهذا السبب ينبغي لدول مجلس التعاون الخليجي أن تعمل على تشجيع الاستثمار في التطوير التكنولوجي على المستوى المحلي، وخلق الحيز اللازم لتسهيل عمل المهندسين مع العاملين في مهنة الصحة العامة، فمثل هذه الشراكات ضرورية للتصدي للأمراض المعدية والمزمنة التي تهدد المجتمعات في مختلف أنحاء المنطقة، وهي تنطوي على فائدة إضافية تتمثل بتوفير فرص ريادة الأعمال للشباب في المنطقة.تحتاج دول الشرق الأوسط إلى أطر متكاملة تعتمد على الإبداع لتدريب العاملين في مجال الرعاية الصحية، حتى يتسنى لها مواجهة تحديات الصحة العامة الحالية والاستعداد للتعامل مع تحديات جديدة غير متوقعة، مثل متلازمة الجهاز التنفسي في الشرق الأوسط، والإيبولا، وغير ذلك من الأمراض المعدية التي قد تظهر دون سابق إنذار.سيستمر النمو السكاني في الشرق الأوسط؛ ولكن نمو الأهمية العالمية للمنطقة أيضا كمركز للتجارة والتنمية الاقتصادية سيعتمد جزئيا على قدرة حكوماتها على إصلاح برامج تعليم وممارسة الصحة العامة.* محمد زمان أستاذ هندسة الطب الحيوي في جامعة بوسطن.«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
تدريب محترفي الرعاية الصحية المقبلين في الشرق الأوسط
05-10-2016