السادس من أكتوبر
نحن أمة يجيد ساستها استعمال الحروب. وبالإمكان تحفيز مفكريها وعناصرها الثقافية المختلفة لخوض إعلام هذه الحروب. حين تندلع الحرب لا تفكر الشعوب فيما يدور حولها، وتنظر خارج حدود الوطن، حيث تدور المعارك الحقيقية والمفتعلة، وهي الوجهة التي يريدها ساسة الحرب، سواء كانت هذه المعارك للدفاع عن الوطن، أو معارك الدفاع عن السيد الرئيس، باعتباره هو الوطن. هذه الحروب جعلت هذه الأمة المصابة بالنكبة الأزلية تصب كل جهدها ووعيها ومهارتها، رغم ندرتها، في سبيل الدفاع عن الحرب وسادة الحرب، وتتجاهل الدفاع عن إنسانيتها وحقها في الوجود، حتى بعد انتهاء حسابات الحروب.
في شهر أكتوبر عام 1973 وفي السادس منه، والذي صادف العاشر من رمضان، ويوم كيبور اليهودي، دخلنا الحرب التي كان يجب أن ندخلها، ليس لتحرير فلسطين، لكن لتحريرنا من الإحساس بالمهانة. المهانة التي استمرت منذ عام 1948، مرورا بعام الهزيمة الكبرى في 1967. تلك الهزيمة التي حاولنا أن نخفف تسميتها إلى نكسة أو نكبة، مبتعدين كثيرا عن تسميتها الحقيقية. وانتهت حرب 73 بالتعادل، وغنينا لها بأصوات تجاوزت أصوات المدافع والطائرات. لم نكسب، لكننا لم نخسر، فاعتبرنا ذلك المكسب الأكبر الذي يمكننا تحقيقه. انتهت الحرب، ولم ندخل مرحلة السلام. لم نلتفت إلى أهم تركيبة غريبة فيما يسمى بـ"الجمهوريات" العربية. فمنذ تلك الحرب وحتى الربيع العربي ونحن تحت سطوة البزات العسكرية. عقيد في ليبيا، ومشير في الأردن، ومشير في السودان، وفريق في سورية، وآخر في مصر، ومهيب في العراق، وعقيد في اليمن، ولواء في تونس، ورؤساء هذه الجمهوريات يضعون الرتب والنياشين كما يحلو لهم. انتهت الحرب، لكن الصوت الذي تركته بقي عاليا لا يعلو عليه صوت. لم نلتفت إلى السلام، وأقنعنا هؤلاء العسكر بأننا في حرب، وعلينا أن نبقى ننظر إلى خارج الحدود لا إلى داخلها. أشغلنا أحدهم ثماني سنوات بحرب ضروس نهبت خيرات وأموالا تبني قارة كاملة، وانتهت بالتعادل أيضا، ولم ينتصر أحد. ولكي لا يسأل أحد لماذا دخل حربا مع دولة صغيرة وجارة، ليذكّر السذج بحرب السادس من أكتوبر التي نسيها، وأنه وجد الطريق للعودة إليها. وهزم وهزمت معه الروح العربية، لكنه مثل جميع العسكر الذين لم ننتبه لهم، اعتبر بقاءه نصرا، ووجوده هزيمة لأعدائه. وحين التفت الناس إلى الداخل، وانتبهوا إلى البزات العسكرية، والتي تستبدل أحيانا بربطات عنق دون أن تتغير الذهنية العسكرية، كانت الحرب الأكثر ضراوة وشراسة يقودها السيد الرئيس، لتحقيق النصر على شعبه، والنصر هنا أيضا أن يفشل الشعب في إزاحته. منذ ذلك التاريخ الذي استسلمنا فيه للهزيمة الأولى قبل أكثر من ستين عاما، ونحن شعوب منكوبة، فاشلة، ومسلوبة الإرادة. لم نتطور علميا، ولم نتقدم حضاريا، لم ننجز فكرا ولا ثقافة، ولم نقترب من تماس الأمم التي تحركت من العالم الثالث إلى الثاني، لنبقى لا نجيد سوى التمسك بالماضي، كما يتذكر المسنّ شبابه. لأننا بساطة لم ننجح في الانتصار في حرب، ولا نعرف كيف نعمل في السلام. قبل انتصارنا في السادس من أكتوبر 73، وبعد انتصارنا، ونحن نصنع الفشل ونعيش الاستسلام له ونحصده الآن دولا فاشلة، ولم يبقَ لنا سوى أمل بعيد بالعودة، لكنه يبقى أملا ربما لن يكون في زمننا ولن نشهده، لأننا لسنا جديرين به.