تعرف الكويت تجربة ديمقراطية نادرة في محيطها الإقليمي، وتلك التجربة لم تكن لتستديم من دون مواكبة إعلامية منفتحة وتعددية.

يبقى الإعلام محركاً أساسياً من محركات النقاش العام والحياة السياسية في هذا البلد، ولولاه لما استطاع الجمهور أن يبلور مواقفه تجاه الأحداث اليومية، وأن يطور خياراته السياسية، ويتخذ قراراته التصويتية، ويُفعّل آليات المشاركة والمساءلة، التي توفر الدعائم الضرورية لاستمرار التجربة الديمقراطية وتطورها.

Ad

في الأسبوع الماضي، تشرفت بزيارة الكويت، للمشاركة في فعاليات "ملتقى الإعلام والتكنولوجيا والاتصال"، الذي نظمه "الملتقى الإعلامي العربي"، برئاسة الإعلامي البارز ماضي الخميس، الذي لا يتوقف عن إطلاق المبادرات النوعية، لتعزيز المجال الإعلامي، في بلاده وغيرها من دول المنطقة.

لقد تركزت الجلسات والنقاشات في هذا الملتقى على أدوار ما أصبح يُسمى بـ"الإعلام الجديد"، أي الأنشطة الإعلامية التي تتضاعف وتزدهر باطراد عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وقد كان في ما قيل وطُرح على بساط النقاش الكثير مما يستوجب الفحص والمراجعة والتحليل، لكن نقاشاً جرى على هامش هذا الملتقى، فجر أفكاراً مهمة تتعلق باستراتيجية الإعلام الكويتي، ورؤية القيادة الإعلامية للاستحقاقات الواجب التفاعل معها.

كان الملتقى تحت رعاية وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء الشيخ محمد العبدالله، الذي حرص أيضاً على رعاية لقاء جانبي مع عدد من الخبراء والمتخصصين، الذين أتوا من بلدان عربية عدة للمشاركة في هذا الحدث. وفي جلسة مسائية، حضرها أيضاً وزير الإعلام، ووزير الدولة لشؤون الشباب، الشيخ سلمان الحمود، دار الحديث عن الإعلام الكويتي وشؤونه.

فهمت من وزير الإعلام أنه ينظر إلى الإعلام بوصفه مؤشراً ذا دلالة مهمة لحالة الأداء العام في بلاده، وأنه يعتقد أن ممارسة إعلامية منفتحة وحرة وتعددية ومسؤولة تمثل ضمانة حيوية، ليس فقط للحالة الديمقراطية، ولكن أيضاً للتماسك الاجتماعي، والوحدة الوطنية، والسلم الأهلي.

واستطعت أن أتبين أنه يفكر في ثلاث قضايا مهمة؛ أولاها كيفية الحفاظ على الفضاء الإلكتروني حراً، ومجالاً خصباً وثرياً ومأموناً للتعبير عن الرأي، من دون الجور على الحريات، ولا الإضرار بحقوق الأشخاص، ولا المساس بالمصلحة العامة. وثانيتها كيفية تفعيل أداء وسائل الإعلام العمومية، لكي تنهض بدورها الحيوي في عمليات الإخبار، والتواصل، ونشر الثقافة الرفيعة، والتنمية، وتعزيز الهوية. وثالثتها أن تصبح المنظومة الإعلامية الكويتية قادرة على إبراز الوجه الحضاري لهذا البلد.

إذا كان هذا حقاً هو ما يفكر فيه وزير الإعلام، ويجتهد للوصول إليه، فالإعلام الكويتي على الطريق الصحيح.

من جانبي، ما زلت أؤمن بأن الإعلام العام، الذي يُسمى في الكويت بـ"الإعلام الرسمي"، ضرورة وضمانة لتحقيق المصلحة العامة، وصيانة الديمقراطية، وموازنة أنماط الأداء غير المهنية التي تأتي عبر الإعلام الخاص.

لا يبدو أن وسائل الإعلام العامة في معظم الدول العربية استطاعت أن تؤدي الوظيفة المنوطة بها، خصوصاً عندما تجري المقارنة بين تلك الوسائل ومثيلاتها في دول مثل المملكة المتحدة، وأستراليا، والدنمارك، وألمانيا.

ففي دراسة أجراها اتحاد الإذاعات الأوروبية، شملت 25 دولة، ثبت أن البلدان التي تمتلك وسائل إعلام عامة ممولة ومدارة جيداً، أقل ميلاً لتبني النزعات اليمينية المتطرفة، وأقل قابلية للفساد، وأكثر اهتماماً بحرية الصحافة.

وتضرب الدراسة أمثلة عدة على نماذج خدمة إعلامية عامة ناجحة، مثل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وهيئة الإذاعة الاسترالية (إيه بي سي)، وهيئة الإذاعة الدنماركية (دي أر)، وتشير في هذا الصدد إلى أن تأثير تلك الوسائل واضح في تعزيز إقبال الناخبين على الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات العامة، وفي دعم المشاركة الديمقراطية في البلاد.

لقد أثبتت الدراسات أن المواطنين يصبحون أكثر معرفة بخصوص الأحداث الجارية إذا كانوا أكثر تعرضاً لوسائل الإعلام العامة.

ثمة علاقة طردية واضحة بين التعرض لوسائل إعلام مملوكة للدولة وبين القدرة على معرفة المعلومات ذات الأهمية بالنسبة إلى المواطنين، وفق ما أفادت دراسة أجراها مركز بحوث السياسة والاقتصاد في ديسمبر 2015.

تؤكد الدراسة أن المنحى التجاري الذي يميز الأداء الإعلامي لوسائل الإعلام الخاصة كثيراً ما يحرف الأداء الإخباري لتلك الوسائل.

بل إن الدراسة المشار إليها تصل إلى ما هو أبعد من ذلك وأوضح أثراً؛ إذ تشير إلى أن الاستطلاعات المقترنة بتحليل المضامين أوضحت ارتباطاً بين التعرض لوسائل الإعلام العامة من جانب، وتوطيد المواطنة من جانب آخر.

لكن القدرة على أداء تلك المهمة الصعبة من جانب الإعلام العام، والوفاء بالدور والوظيفة المفترضين يتطلب بعض الجهد كما يستلزم تركيز الإصلاح.

ستكون هناك إشكالات قانونية، وعقبات مالية وإدارية، تعترض طريق أي خطة لتطوير أداء الإعلام المملوك للدولة في الكويت، لكن إرادة الإصلاح، وتركيز الجهود، يمكن أن يضمنا تحقيق الاختراق في هذا الملف.

كان المتحدثون في هذا اللقاء المشار إليه حريصين على مناقشة مسألة حماية المصالح الخاصة والعامة من دون المساس بحرية الرأي والتعبير، على وسائط التواصل الاجتماعي.

وزير الإعلام عبر عن رأي متطور في هذا الصدد؛ إذ أعرب عن اعتقاده بأن الممارسات الشاذة والمنفلتة والحادة تنحسر، وأن مستخدمي هذه الوسائط يطورون تجاربهم، ويتفادون التورط في المخالفات بمرور الوقت.

إنها نظرة متفائلة وإيجابية، لكنني عبرت عن تحفظ بصددها؛ خصوصاً إذا عرفنا أن دراسات موثوقة أثبتت أن نحو 80% من الأوروبيين الذين التحقوا بـ"داعش"، في السنوات الخمس الفائتة، تم تجنيدهم عبر "السوشيال ميديا".

تفيد القراءة الجادة للتجارب الغربية في هذا الصدد، أن دول الحريات في الشمال لم تتسامح مع "الخطايا الكبرى" التي تُرتكب عبر وسائط التواصل الاجتماعي، والمقصود بالخطايا الكبرى تلك الممارسات التي "تحرض على العنف"، أو "تثير الكراهية"، أو "تشيع التمييز بين المواطنين".

تظل حماية السلامة العامة، وضمان المساواة في الحقوق والواجبات، التزامين جوهريين تنهض بهما مؤسسات الدولة الرشيدة، وتظل قدرتها على تطوير الآليات اللازمة لضمان فضاء إلكتروني حر ومتعدد ومتنوع ومسؤول في آن واحد، هدفاً صعباً يجب العمل على تحقيقه.

* كاتب مصري