جبل الرب

نشر في 10-10-2016
آخر تحديث 10-10-2016 | 00:00
 فوزية شويش السالم جبل الرب رواية للكاتب الإيطالي "أري دي لوكا" هي أول رواية أقرأها له وأتعرف من خلالها على عالمه الغني بإحساس إنساني يخلق من خط الفقر وناسه ثراء وقيمة أدبية تضع كاتبها بمنزلة الكتاب العالمين الكبار.

كتابته تنضح بإنسانيته، بسيطة بلا فذلكة زخرفية ولا اعتناء متكلف ومتعب باللغة أو بالتقنيات الكتابية، هي كتابة آتية بكل بساطة من القلب ومن صدق المعايشة وعمق التجربة الحياتية التي قذفت بذاتها على الورق، فالكاتب لم يفبرك الأحداث ولم يختلقها، كان هو نارها ووقودها وقلب مفاعلها، عقله الفنان وروحه الحساسة استطاعت أن تغربلها وتعيد صياغتها ضمن ما حولها من أحداث الزمان والمكان، لأنه أدرك كونه كحلقة بهذه السلسلة "الزمنكانية"حيث المكان مدينة نابولي في إيطاليا، والزمن سنوات الستينيات من القرن الماضي، ربط أحداثها معه كصبي في الثالثة عشرة من عمره مع تغيرات نموه الجسدي وتعرفه عليها، والأحداث التي تدور في الحي الذي يسكنه وهو جبل الرب وناسه الفقراء البسطاء ومنهم والده الذي يشتغل في الميناء وأمه المريضة، والنجار الذي يشتغل لديه كمعاون ليتعلم حرفة النجارة، وبهذي المنجرة يتعرف على الإسكافي اليهودي الأحدب الناجي من مذبحة اليهود، فيعقد معه صداقة جميلة يتعلم منه التخيل والرؤية الفلسفية العميقة لتفسير وتأويل أحداث الحياة اليومية المعيشة، وهناك أيضا الصبية ماريا التي تتفتح مشاعره العاطفية والحسية وتنمو مقدراته معها.

كتابته إنسانية تتكلم عن حياة الناس الفقراء قاع المجتمع الإيطالي وأحلامهم الساذجة وجهلهم البريء، المليء بالمعتقدات الخرافية وتصديقهم للمعجزات -

سيرة المدينة مجدولة بسيرة الصبي بكل ما فيها من تاريخ وتراث وجغرافيا وعادات الناس وحياتهم في مدينة نابولي التي أعرف لأول مرة أن لها لغة خاصة غير اللغة الإيطالية، ويصر الأب على أن يتعلم ابنه لغة الذين يتعلمون بالمدارس، والأب ذاته يبذل مجهودا مضاعفا حتى يتعلمها بذاته -

كتابته قريبة من القلب حنونة وعطوفة عميقة وبسيطة كأنها نسيم لا يؤذي ولا يجرح، ومشاهدها بكل ما تحتويه من بساطة "الحكي" مكتنزة بعمق الرؤية الفلسفية لمجريات أحداث الحياة بطبيعية بدون إدراكها بدورها هذا.

ولعل مشهد الختام السريالي العجيب هو أروع المشاهد التي ستبقى بذاكرتي إلى جانب كل تلك المشاهد الخالدة التي لا تُنسى وقرأتها لكتاب آخرين، مشهد الختام كان في غاية الغرابة وبعرامة خيال بلا حدود، ففي ليلة الميلاد تشتعل نابولي بالألعاب النارية، ويصعد الصبي مع ماريا إلى السطح حيث سيطلق قوس "البومرانغ" إلى السماء، وبذات الوقت سيحرر اليهودي جناحيه من حدبته ليطير من فوق السطح ليذهب إلى مدينة القدس، وفي انطلاق كل هذه الأحداث معا يخرج صوت الصبي عاليا مثل صوت الحمار، وهذا يعني تحرره من صوت المراهق المزدوج حين يجد صوته الخاص.

هذه نبذة عن هذا الكاتب السهل العميق الذي ولد في نابولي عام 1950 وانخرط بمنظمة يسارية متطرفة، واشتغل بأعمال يدوية كثيرة لينضم لصفوف البروليتاريا الإيطالية، وعمل في فرنسا وإفريقيا كسائق قطارات، وسائق شاحنات، وعامل سكك حديد، وعامل بناء وهي المهنة التي مازال يمارسها برغم شهرته وكونه من أكبر كتاب إيطاليا وأوروبا في الوقت الحالي، وروايته جبل الرب هذي فازت بجائزة "فمينا" الفرنسية كأفضل عمل إبداعي روائي عام 2002.

وهذه فقرة من الرواية لحوار بين الصبي والإسكافي: "حين يدب الحنين في أوصالك فإن الأمر لا يتعلق بالغياب بل بالحضور - إنها زيارة يقوم بها أشخاص وأوطان يأتون من بعيد ويمكثون برفقتك برهة من الزمن - إذن يا دون رافانيني، حين يغلبني الشوق فإن ذلك هو حضور؟ بالضبط - عليك أن ترحب بكل من يحضر وتستقبلهم بحرارة - إذن حين تطير وتمضي بعيدا يجب ألا اشعر بغيابك؟

لا - حين يخطر لك أن تفكر بي سأكون حاضرا معك-".

ومن جمله الجميلة الصمت الذي بفضله تعلم الكتابة: "علموني ألا أطرح الكثير من الأسئلة وأن أخفي حشريتي، أرغب في أن أقول ما تعلمته في نومي، لكنني أصمت، أصمت كي لا أقول الحماقات-- إنها أفكار بكماء لا تستطيع أن تعرفها -- أنا أيضا أميل إليها لكنني لا أعرف أن أقولها بطريقة صائبة، لذلك أصمت -".

back to top