ارتحلت هند رستم إلى آفاق النجومية، وصارعت أمواج «الإشاعات» بحضورها السينمائي المتفرد، وثراء موهبتها في أداء ألوان التمثيل الكوميدي والتراجيدي والاستعراضي، وامتلكت قدرات غير مسبوقة في تقمص أصعب الشخصيات، وذهبت إليها بطولات أهم الأفلام لكبار المخرجين، وبلغت ذروة تألقها كممثلة وعاشقة للفنون والأدب والثقافة. عندما كتب الأديب يوسف السباعي روايته «رد قلبي» أراد أن يؤرخ لملامح التحول في الحياة المصرية، إثر قيام ثورة يوليو 1952، لاسيما أنه كان ضابطاً في الجيش المصري، وتحول هذا العمل الأدبي إلى فيلم روائي طويل إنتاج 1958، ومن أوائل الأفلام العربية التي صورت بالألوان الطبيعية.
سبحت هند رستم ضد تيار «الإشاعات» وتعلّقت بفنها كطوق نجاة من الغرق، ولمعت كنجمة استثنائية، وامرأة عنيدة لا تعترف بالضعف والهزائم، وكرست حياتها للتمثيل، وتربية ابنتها «بسنت» وهواياتها المفضلة مع القراءة وارتياد المسرح، والسفر إلى معشوقتها باريس، وطموحاتها التي لا تنتهي في تجسيد أصعب الأدوار على الشاشة. كثير من النجمات، استقرت بهن الحال في أدوار نمطية، ولكنّ رستم رفضت لقب «ملكة الإغراء» الذي أطلقه عليها الإعلامي مفيد فوزي، وفي غمرة غضبها من اللقب تنبهت إلى محاولة تكبيلها في أدوار المرأة أو الفتاة «اللعوب» وأعلنت تمردها بتجسيد شخصيات لا ترتكز على جمالها اللافت، بل على قدرتها على سبر أغوار الشخصية، والتقمّص الشديد الذي حذرها منه الكاتب والمفكر الكبير عباس محمود العقاد. امتلكت هند رستم مكتبة ضخمة في منزلها في حي الزمالك، وبدأت تأسيسها منذ طفولتها، واقتناء مؤلفات كبار الأدباء أمثال إحسان عبدالقدوس، ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، وخصصت ركناً لمؤلفات العقاد، لا سيما بعدما طلب منها الصحافي الكبير مصطفى أمين مقابلة «عدو المرأة» على صفحات مجلة «آخر ساعة» المصرية. بدأت فكرة اللقاء الاستثنائي بين نجمة سينمائية والأديب الكبير عباس محمود العقاد، عندما طرح عليه مصطفى أمين أن يختار إحدى النجمات الثلاث، فاتن حمامة أو ماجدة أو هند رستم، واختار «عدو المرأة» أن يلتقي بالأخيرة، ويضعها في أصعب اختبار، ولحظات من القلق في انتظار الموعد المرتقب. قبل ساعات من اللقاء، حذرها مصطفى أمين من التطرق إلى أي شأن خاص بالعقاد، لا سيما حياته العاطفية، ما زادها قلقاً وارتباكاً حتى وصولها إلى منزل «عدو المرأة»، وهناك قالت للصحافي كمال سعد (الذي أجرى الحوار ونشره في مجلة «آخر ساعة» في 18 ديسمبر 1963) إنها ستغادر، ولكنها وجدت عملاق الأدب في انتظارها، وترتسم على وجهه ابتسامة، ويدعوها إلى الدخول إلى محرابه. كانت هند ترتدي فستاناً أسود محتشماً، ووضعت على كتفيها فرواً أبيض وانطبعت على ملامحها علامات التوتر، ودخلت «ملكة الإغراء» و«مارلين مونرو الشرق» إلى منزل العقاد ومعها رصيد من الأفلام، وهاجس من الرجل الشهير بعدائه للمرأة، وصاحب المؤلفات الموسوعية والمعارك الثقافية الصاخبة مع أدباء ومفكري جيله. انطبعت تفاصيل اللقاء في ذاكرتها، وقالت: «كنت خائفة، وبادرني العقاد بقوله «لقد التقى الهلال مع النجوم»، وإنني أشبه بطلة روايته «سارة»، ولكنها هادئة وأنا عصبية جداً. كذلك تطرّق إلى الحديث عن فيلمي «شفيقة القبطية»، واكتشفت أنه شاهد كثيراً من أفلامي». قال العقاد لنجمته المفضلة، إنها تغرق في أدوارها، وإن الفن يتطلّب أن تعرض ولا تتقمّص، وإن ثمة خطراً عليها من الاندماج الشديد، فبادرته منفعلة أنها لا تستطيع التمثيل إلا بهذه الطريقة، وقد أصابها شلل كاذب في كتفيها، بعد دورها في فيلم «شفيقة القبطية» وتجسيدها حياة الراقصة التي أدمنت تعاطي الكوكايين. قال لها العقاد: «عندما رأيتك في فيلم «شفيقة القبطية»، تذكرت أول مرة رأيت فيها أنغريد برغمان، وكان عمرها 22 سنة، وكانت صريحة وطبيعية مع انفعالاتها، لذا في رأيي أنك أقرب إنسانة إلى سارة، وأرشحك لتمثيل هذا الدور. إنك سارة نفسها، بكل ما فيها من ذكاء وطبيعة الأنثى، والفارق بينكما أنها هادئة وأنت عصبية». تطرّق العقاد إلى الحديث عن مارلين مونرو، ورأى أنها أنثى ناقصة التكوين، وأمها مجنونة، لذا فكل ما كانت تفعله عبارة عن تعويض لشعورها بنقص الأنوثة، وأرادت أن تلفت إليها الأنظار، وفي الواقع أنها مبالغة جداً في حركاتها، وليست واثقة في أنوثتها.عقّبت رستم: «لكن يا أستاذ عقاد، ربما هذا ليس ذنبها، ولكنّ المخرجين فرضوا عليها هذه الحركات، وبعضهم مثلاً إذا رأى أن هند رستم ناجحة في الإغراء، فحتما الممثلات اللاتي يأتين بعدها يكون شعرهن أصفر مثلها، ويقلدن أداءها، وبالتالي لا يكتشفن مواهبهن الخاصة». امتدّ اللقاء بين رستم والعقاد أربع ساعات كاملة، تطرّقا خلالها إلى موضوعات متفرقة، واكتشفت أن محدثها العملاق يحيط بثقافة سينمائية كبيرة، وأنه خلع عليها لقباً جديداً هو «ملكة التعبير»، وأشاد بفنها وقدرتها على أداء أدوار متنوعة، وانصرفت أيقونة الإغراء من منزل «عدو المرأة»، وظلّت تفاصيل اللقاء مطبوعة في ذاكرة النجمة الاستثنائية.انتهى لقاء هند رستم مع العقاد، وقبل أن تركب سيارتها، قالت جملة واحدة للصحافي الذي أجرى المقابلة: «سأرسل باقة أزهار إلى العقاد وعليها الكلمات نفسها، والمعاني ذاتها التي شعرت بها... لن أنسى في حياتي طعم هذه المقابلة». شاركت هند رستم في بطولة فيلم «رد قلبي» مع كل من شكري سرحان وصلاح ذو الفقار ومريم فخر الدين وأحمد مظهر ورشدي أباظة وكمال ياسين، والفنانين الكبيرين حسين رياض وفردوس محمد، وتولى الإخراج عز الدين ذو الفقار. أسند الأخير إلى هند دور الراقصة «كريمة» كبطولة موازية لشخصية «إنجي» التي جسدتها مريم فخر الدين، والأولى يكسو ملامحها الحزن والألم، وشعور جارف بالاغتراب في أجواء الملاهي وحياة الليل، كأنها مجرد حطام امرأة، مما جعلها الشخصية الأصعب، مقارنة بالفتاة الأرستقراطية الغارقة في الرومانسية والتي تحب «ابن الجنايني». الهانم والمشاهير
حفلت حياة هند رستم بصداقات وثيقة مع مشاهير الأدب والفن والصحافة، وأطلق عليها الموسيقار محمد عبد الوهاب لقب «الهانم»، واعتبرته بدورها صاحب بصمة التحديث في الموسيقى العربية، ومجددها بعد سيد درويش، وقالت إن أغنيته الأخيرة «من غير ليه» تشعرها بالأستاذية والشموخ والكبرياء، والقدرات الهائلة لديه. اعترفت هند بأنها لم تكن في طفولتها وصباها من عشاق صوت أم كلثوم، وأن أمها السيدة نجاة كانت من عشاق «الست» وكانت تعلن حالة الطوارئ في البيت يوم حفلتها الشهرية. التقتها أيقونة الإغراء في العيد التاسع لثورة يوليو، ذلك في كواليس حفلتها في نادي الضباط بالقاهرة، وجذبت أم كلثوم بأغنيتها الوطنية «ثوار»، ويومها شعرت رستم بندم لأنها أضاعت سنوات من عمرها، من دون أن تشاهد أو تسمع سيدة الغناء العربي. كذلك ارتبطت هند بصداقة قوية مع إحسان عبد القدوس ومصطفى أمين ونجيب محفوظ. عن الأخير قالت في أحد حواراتها: «قسم كبير في مكتبتي يضمّ كتب نجيب محفوظ. أتذكر عندما كنت صغيرة كيف أبهرتني أعماله، وتمنيت أن أقابله، ولم أتوقع أبداً أن يأتي هذا العملاق لزيارتي. أثناء حديثي إليه، وجدته إنساناً متواضعاً وبسيطاً، ومحباً للناس كلهم، لذا عندما تقرأ مؤلفاته مثل الثلاثية «بين القصرين وقصر الشوق والسكرية» تجده يرصد قاع المدينة، ويناقش حياة البسطاء فلسفياً، لذلك يستحق الفوز بجائزة نوبل عن جدارة». إشارات ومواقف عدة، نبهت إلى ثقافة رستم الرفيعة، وإلمامها بأعمال كبار الكتّاب العرب والعالميين، وشغفها بفن الرواية، ومعايشتها الشخصيات والأحداث، ولم يكن غريباً أن تجد وقتاً للقراءة، والوسط الفني كان يعرف أنها لا تحبّ السهر، وتفضّل الجلوس في المنزل مع ابنتها «بسنت» وزوجها الدكتور محمد فياض وأحفادها، وتكرّس وقتها لممارسة هوايات مختلفة. كان الكاتب الراحل إحسان عبد القدوس أحد أصدقائها المقربين، وربطتها صداقة بوالدته رائدة الصحافة والتمثيل روز اليوسف، وأثنت الأخيرة على دور هند في فيلم «لا أنام» وتنبأت لها بمستقبل كبير في السينما. اعتبرت هند أن كتابات عبد القدوس مرآة للمجتمع بشرائحه كافة وطبقاته، وأنه ينوب عن الأم في جانب من تربية بناتها، وينبه إلى مزالق التحرر من دون ضوابط، وعبّر عن ذلك في أعماله الخالدة «الطريق المسدود» و«أنا حرة» و«لا أنام»، وغيرها من روايات تحوّلت إلى أعمال سينمائية، وحققت إيرادات غير مسبوقة. كذلك التقت راهبة الفن بالكاتب الكبير توفيق الحكيم، وتحدثت إليه عن قصة «الخروج من الجنة» التي تحوّلت إلى فيلم قامت ببطولته مع فريد الأطرش، وأخرجه حسن الإمام، وعن روايتيه الشهيرتين «عصفور من الشرق» و«يوميات نائب في الأرياف»، وكيف أنهما تمثلان جزءاً مهماً من سيرته الذاتية، وتطرقت إلى مسرحياته «أهل الكهف» و«السلطان الحائر» و«بنك القلق» و«يا طالع الشجرة». كشفت القارئة المتمرسة عن ملمح لا يعرفه جمهورها، وثقافتها الرفيعة، واطلاعها باللغة الفرنسية على أهم عناوين الأدب العالمي، ولم يكن تضمينها بعض عبارات كبار الكتّاب في أحاديثها نوعاً من الادعاء، بل كان جزءاً أصيلاً من تكوينها المعرفي، وتراكم خبراتها الحياتية، ونضجها الفني. بعد زواجها بالدكتور محمد فياض، أضافت هند إلى مكتبتها بعض الكتب الطبية، وكأنها كانت تحاول اكتشاف عالم زوجها الخاص، ومشاركته في اهتماماته، ولكنها لم تجرؤ على مناقشته في ما قرأته. وبدوره كان يأتي لها بأحدث النشرات العلمية حول آثار التدخين، ويهتمّ بمتابعة حالتها الصحية، ولم يتدخّل في قرار اعتزالها التمثيل والأضواء والشهرة.العصر الذهبي
رفضت راهبة الفن أن تقدّم تنازلات مثل بعض زملاء وزميلات جيلها، وقبول أدوار ثانوية، أو سيناريو رديء، وأدركت أن السينما العربية لا تعترف بنضج الفنان، كسائر نجوم العالم الذين صنعت لهم أفلام بعد تخطيهم مرحلة الشباب، أمثال صوفيا لورين وكانديس بريغن ومارلون براندو وآل باتشينو وروبرتو دي نيرو. كان مشهد النهاية في فيلم «حياتي عذاب» 1979، من إخراج علي رضا، وشاركها البطولة كل من عادل أدهم وعمر الحريري ونورا، والمطرب الراحل عماد عبدالحليم، وتقاضت ثلاثة آلاف جنيهاً عن دورها، وظلت النجمة والممثلة الموهوبة، وصاحبة الرصيد الهائل من الأفلام، تبحث عن هذا السيناريو المفقود، ولم يطرق بابها أحد. بعد آخر أفلامها، أيقنت رستم أن المشهد السينمائي يودّع عصره الذهبي، وتقاليده الراسخة، ويفسح المجال لأخلاقيات ومعايير لا تعترف بمكانة الفنان وتاريخه. كذلك رأت كيف تحوّل بعض زملائها من البطولة المطلقة إلى الأدوار الثانوية، ليحافظوا على مصدر رزقهم الوحيد، ولا يطويهم الفقر والنسيان. قالت في هذا الشأن: «أصبح المنتجون يصورون أفلامهم في الشقق المفروشة فيوفرون ثمن «البلاتوه»، ويأتي أصحابهم وجيرانهم ليشاهدوا الممثلين، وكأننا في جبلاية للقردة، وغالباً ما يفقد الممثل تركيزه، ويتعجّل انتهاء تلك المهزلة. بينما في الماضي كانت للفنان غرفته الخاصة في الأستوديو وكنا كزملاء أسرة واحدة، تجمعنا المحبة والتقدير. كل هذا تغير هذه الأيام». استشعرت هند رستم الغبن الذي لحق بجيلها، وتحوّل كثير من نجومه ونجماته إلى أدوار ثانوية، ورفضت التنازل عن القمة، وقبول سيناريو متواضع يطيح بما حققته من نجومية ومكانة في ذاكرة السينما العربية، وقلوب الملايين من عشاق فنها في مصر، بل في أرجاء العالم العربي. لفتت رستم إلى أنها من خلال مشاهدتها بعض الأفلام والمسلسلات، وجدت أنها تحوي ألفاظاً خادشة، وأن ذلك أصبح أمراً عادياً في غياب الرقابة، أو إجازتها هذه الأعمال، بينما تتذكر أنه عند تصوير فيلم «لا أنام» للمخرج صلاح أبو سيف، كان الرقيب يحضر إلى الموقع يومياً تحسباً لوجود مشهد أو ألفاظ غير لائقة. رفضت رستم فكرة إلغاء الرقابة أو تساهلها مع أعمال رديئة، واعتبرتها حصناً ضد الإسفاف والابتذال، وضرورة وضع معايير لتقنين الدور الرقابي، وفق أسباب مقنعة، بما لا يعيق حرية الرأي والنقد البناء والتعبير الراقي، سواء في أفلام كوميدية أو تراجيدية. دافعت راهبة الفن عن مجدها السينمائي، وعملت على عدم تحوله إلى نيغاتيف محترق، أو أصداء من الماضي، وارتضت انزواء النبيلات، فاهتمت برعاية ابنتها «بسنت» وعاشت مع زوجها الثاني الدكتور محمد فياض، الذي رحل قبلها بعامين في 2009.تفرغت هند رستم لحياتها الخاصة، واستغرقتها هوايتا تربية الكلاب وتصميم الديكور، وأدركت أن بعض البشر لا يملك صفة الوفاء، فصارت الشاشة الصغيرة وسيلتها الوحيدة للتسلية، ومتابعة الأعمال الفنية الجديدة، وعاشت 85 عاماً.ملكة التعبير
استضاف عباس العقاد نجمته المفضلة، فاكتشفت هند رستم الوجه الآخر لكاتبها المفضل، واكتملت لديها ملامح شخصيته التي لم تعرفها قارئة مؤلفاته كمفكر وناقد وأديب. توقفت أمام لوحة صادمة لامرأة تحيطها الحشرات، وحين سألته عن مغزى اقتنائه لها، قال عدو المرأة: «كي لا أنسى»، فأدركت حينها سرّ كتابته روايته الوحيدة «سارة»، وتأكدت أنها ليست عملاً متخيلاً، بل نتاج تجربة قاسية دفعته إلى إيثار العزلة، والتفرغ التام لكتاباته الموسوعية. كذلك أدهشها قوله: «أنت أكثر ممثلة قادرة على تجسيد شخصية سارة». وظلّ هذا المشروع السينمائي حلماً يراود «ملكة التعبير»، اللقب الذي أطلقه عليها العقاد، ويفسر سرّ استضافته لها في صومعته. وصفت هند هذا اللقاء بالاستثنائي، وراحت تتوطد صداقتها بكثير من الأدباء والصحافيين أمثال إحسان عبد القدوس ومصطفى أمين ويوسف السباعي، وتكونت لديها مكتبة عامرة بمؤلفات أدبية وفكرية، وبعضها باللغة الفرنسية التي تتقنها، وتنامى لديها الطموح في تجسيد شخصيات غير تقليدية، فرفضت أعمالاً كثيرة دون المستوى، ما دفعها إلى الانسحاب التدريجي من الأضواء، وإلى أصعب قرار: اعتزال التمثيل.في الحلقة المقبلة: • أيقونة الإغراء ترفض الوقوف أمام العندليب في أشهر أفلامه.• حكاية زواج الصالونات بين الطبيب الأنيق والنجمة الشهيرة.• سرّ اتصالها بمديحة يسري وإلهام شاهين ووصيتها لابنتها «بسنت».